صبري حافظ
الشروق 7-1-2011
لم يعد الصمت ممكنًا!
ولم يعد كافيا الحديث عن صلابة الصف الوطنى ولا عن الوحدة التاريخية بين الهلال والصليب، والتى رادت مسيرة مصر الوطنية. فهذه كلها أمور أساسية، بل بديهية، ولكنها للأسف الشديد قد تعرضت للتآكل آمام أعيننا ونحن صامتون. والواقع أن هناك بديهيات أهم، مسكوتا عنها. وهذا السكوت هو الذى أدى بمصر إلى هذه الهاوية التى لابد لنا من التصدى لترديها فيها. وإذا لم يتناول مثقفو مصر، وأعنى هنا المثقفين الجادين المخلصين لمصر، وليس كلاب حراسة النظام الذى أدت سياساته بمصر إلى هذه الهاوية، هذا المسكوت عنه وكشفه والتصدى لكل ما يكرس الخراب فيه، فلن يكون هناك من سبيل إلا المزيد من التردى فى هاوية هذه الكارثة التى تريد أن تشد مصر إلى قيعان سحيقة، أكثر سوادا وخرابا مما تعانى منه الآن، وأشد هولا.
فالكارثة التى شهدتها الإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية تجلب مشاهد الخراب العراقية إلى الأذهان، بما أسفرت عنه من دمار ومحاصصات طائفية، وتهجير الملايين، وتقسيم للبلد العربى العريق وفق مخططات مشبوهة، كى لا تقوم له قائمة فى المستقبل المنظور. ولا أظن أن هناك فى مصر من يريد لها أن تمضى خطوة واحدة أخرى فى هذا الطريق الملغوم والمشئوم. إذ تشكل المجزرة البشعة التى وقعت فى الإسكندرية صرخة دامية، لمن لم يتيقن بعد بأن مصر تنادى مثقفيها، بأن يتحركوا، وأن يكرسوا كل إمكانياتهم العقلية والمعرفية لتشخيص حقيقة الداء، ومعرفة أسبابه، والكشف عن المسكوت عنه فى هذا اللغط الشديد الذى يعقب كل كارثة تحيق بمصر، وقد أصبح تاريخها فى العقود القليلة الماضية، وفى ظل نظام والغ فى الفساد وعار من المصداقية والمشروعية، سلسلة متواصلة من الكوارث التى سرعان ما تنداح فى غياهب النسيان واحدة بعد الأخرى. فآفة حارتنا النسيان، كما قال نجيب محفوظ.
لكن ما جرى فى الإسكندرية مع مطلع هذا العام الجديد هو كارثة بأى معيار من المعايير، لا يجب أن يسمح لها العقل المصرى بأن تنداح هى الأخرى فى طوايا هذا النسيان المقيت. وإنما لابد أن يصحب هذا كله، تشخيص دقيق لأسباب المرض الذى تعانى منه مصر: والذى أجمله فى كلمتى العنوان: الفراغ والشحن. فماذا أعنى بالفراغ؟ أعنى به هذا الواقع الذى تعيشه مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة والذى يشبه الفراغ: فليس ثمة مشروع وطنى مصرى يلتف حوله الجميع، وترود أولوياته حركة المجتمع. فيتحقق الوطن من خلال انخراط أفراده فيه. وليس ثمة حركة سياسية بها تيارات فاعلة يمكنها أن تثير جدلا سياسيا أو تطرح أجندة للعمل الوطنى فى عالم يعج بالأجندات المتصارعة.
وقد امتد هذا الفراغ ليشمل كل مناحى حياتنا. بدءا من إفراغ مصر من عقلها النقدى فى السبعينيات، مرورا بإطلاق يد التأسلم السياسى فى شتى مناحى حياتها، حتى عم الظلام كل شىء. وانهارت الجامعات المصرية وانهارت معها بقية الخدمات من التعليم إلى الصحة وحتى الطرق والمواصلات العامة وغيرها. وتضاءلت قوة القانون حتى كادت تختفى فملأت البلطجة وقانون الغابة الفراغ. ولم ينم شىء فى مصر طوال تلك الفترة قدر نمو جهاز الشرطة القمعى. وتتابعت أجيال من الخريجين لتلتحق بطوابير البطالة، وانسد الأفق أمام الشباب الذى أخذ يتنامى شعوره بألا قيمة له ولا لحياته ولا لوطنه. والواقع أن هذا الشعور المتنامى لدى الشباب، الذى يفضل بعضه أن يموت غرقا فى البحر المتوسط جريا وراء سراب النجاة عبر الهجرة، على أن يبقى فى وطن يشعره كل يوم بألا قيمة له، هذا الشعور هو أبلغ دليل على ذلك الفراغ الذى اقصده.
فمنذ اتفاقيات كامب دافيد المشئومة، وهذا الفراغ يتخلق على جميع المستويات ويكتب نفسه فى خريطة مصر الاجتماعية والجغرافية معا، من خلال اتساع الفجوة المهولة بين نصف الشعب المصرى الذى يعيش الآن تحت خط الفقر، ويعيش أكثر من ربعه فى العشوائيات، وأقل من 3% من الشعب المصرى (أقل من مليونين) تنفق ببذخ، وتعيش بسفه فى المنتجعات السكنية المسوَّرة، فى القطامية والتجمع الخامس وما شابهها، بعقلية أشبه بعقلية المستوطنين فى فلسطين المحتلة، كما تقول جماعة دراسات القاهرة الحضرية التى أصدرت حتى الآن ثلاثة كتب مهمة، بالإنجليزية.
والواقع أن الفترة الممتدة منذ اتفاقيات كامب دافيد المشئومة وحتى الآن لم تشهد فقط تخليق هذا الفراغ، ولكن كان من أهم أهدافها إدخال المارد المصرى الذى طالما نشر أفكار التحرر والتقدم فى القارات الثلاث، وقاد حركة التحرر الوطنى فى المنطقة العربية والأفريقية من ورائها، إلى قمقم اتفاقيات السلام المغشوش. وعزل مصر عن أى فاعلية فى محيطها الإقليمى، ويجب ألا ننسى أن المقاطعة العربية لمصر عقب المعاهدة، وإن انتهت شكلا، إلا أنها بقيت موضوعا، وبقيت معها عزلة مصر عن أفريقيا التى سنجنى الكثير من ثمارها المسمومة. لأن الهدف الأساسى لمعاهدة الانصياع للمخطط الصهيونى، كان إطلاق يد الدولة الصهيونية فى المنطقة تعيث فيها فسادا والمصرى ينظر لكل ما يدور من حوله كظيما. بل تقدم آخرون من تركيا إلى إيران لملء الفراغ الناجم عن تكتيف المارد المصرى، وتحويله إلى جثة ضخمة من ثمانين مليونا، وضعت ممارسات الفساد نصفهم تحت خط الفقر كما ذكرت.
وسط هذا الفراغ والعجز وانسداد الأفق تم الأمر الثانى: الشحن. فماذا أعنى بالشحن؟ إنه ما يعقب كل تفريغ أو فراغ. فما أن فرغت مصر على شتى المستويات،السياسية والاجتماعية والعقلية، حتى كان من الضرورى، وهذا أمر ليس مفصولا عن معاهدة السلام المسموم، شحن هذا الفراغ على مستويين: أولهما هو الشحن الإسلامى، والثانى هو الشحن الصهيونى بدون ترتيب، لأنهما تمّا بالتزامن معا، وبالتفاعل مع بعضهما البعض من أجل تحقيق ما بدأت تجلياته البشعة فى مجزرة الإسكندرية، وما يستهدف تفتيت مصر والإجهاز عليها. لأن التفكيك الذى يخلق جغرافيا فى أقصى جنوب وادى النيل، والذى ستتحقق أولى ثماره بعد أسابيع فى تفكيك السودان، يتحول إلى تفكيك ديموجرافى فى أقصى شماله، بعدما تم الشحن الصهيونى والشحن الذى يدعو نفسه بالإسلامى.
وقد بدأت أبجديات الشحن الصهيونى فى ملاحق معاهدة كامب دافيد المشئومة التى فرضت على مصر التطبيع، وتبديل عقل النشء فيها، بأن تزيل من أطلسها اسم فلسطين، وأن تلغى من برامجها التعليمية كل ما من شأنه أن يعلم الطلاب أن دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين هى عدو مصر الأول والأخير. وبدأ الشحن باقتراح أعداء بديلين، وتخليق العداوات بين مصر وأشقائها العرب والأفارقة معا. واستمرت مسيرة الشحن طوال أكثر من ثلاثين عاما حتى أصبح النظام المصرى الراهن هو «الذخر الاستراتيجى» للعدو الصهيونى كما يقول مفكروه السياسيون. والغريب أن هذا الشحن الصهيونى الذى نجح فى أن يحول النظام الراهن فى مصر إلى الذخر الاستراتيجى له، كان يتم ويتواصل بينما هذا العدو الصهيونى يتآمر باستمرار على مصر، وآخر فصول هذا التآمر ليس قضية التجسس الأخيرة فحسب، وإنما أيضا تأليب جيران مصر الأفارقة عند منابع النيل للنيل من حصتها، وتقسيم السودان.
أما الشحن الذى يسمى بالإسلامى فحدث عنه ولا حرج، وقد كان أول من تنبه إلى خطورته المدمرة هو المثقف العقلانى الكبير جمال حمدان فى (شخصية مصر) حينما كتب «إن الصحوة الإسلامية التى تتحدث عنها الجماعات المتطرفة ما هى إلا صحوة الموت أو رقصة الذبيح، بعد طول احتضار استمر قرنا أو قرنين. وهى صحوة نفطية مبعثها البترول المجنون ليس إلا» وأضيف إليه الدعوة الوهابية ضيقة الأفق، والتى نجحت فى التغلغل فى شتى مناحى الحياة اليومية للمصريين من «عقيقة» أطفالهم، حتى معمار بناء مقابرهم التى جلبت لها النزعة الوهابية القبح والبشاعة. وهو شحن مستمر وممول وهابيا منذ أكثر من أربعة عقود، يملأ الواقع المصرى بكل صور العنف الرمزى ضد كل من لا ينصاع لرؤيته المتخلفة، من تحجيب المرأة حتى تحجيب العقل، وفرض التحية الإسلامية عند الرد فى التليفون على غير المسلمين، إلى الميكروفونات الموجهة على شقق قبط مصر والتى تنطلق منها أنكر الأصوات، وغيرها من الممارسات التى ساهمت فى خلق هذا الاحتقان الطائفى المقيت. وهو تأسلم منافق مشبوه يصيبه العى والخرس حينما يتصل الأمر بتصرفات دولة الاستيطان الصهيونى فى تهويد القدس، أو تهديد منابع النيل فى الجنوب، ويتنادى صارخا «وا إسلاماه!» حينما يتعلق الأمر بشق الصف فى مصر، أو بفرض التخلف الوهابى عليها، أو بقبطية يقال إنها أسلمت. وكلنا يعرف، كما أثبت عالم الاجتماع العظيم بيير بورديو، أن كل عنف يبدأ رمزيا ثم يتحول إلى عنف دموى، سرعان ما بدأت تجلياته فى المسلسل الممتد من الكشح ونجع حمادى وصولا إلى مجزرة الإسكندرية.
لقد انتهى هذا الشحن المزدوج بمصر إلى هذه المجزرة البشعة والتى تعد فى مستوى من مستوياتها أولى نتائج نجاح أحمد عز الساحق فى تزوير الانتخابات، واستبعاد كل قوى المعارضة السلمية، حتى لم يعد أمام التأسلم المخبول خيار إلا تلك المعارضة المجنونة. لهذا كله لم يعد كافيا أن يتأرجح صوت المثقفين، فى التعامل مع الأزمة البنيوية للنظام المصرى، ولمصر من ورائه، بترجيح أحدى كفتى الجدل الدائر فى أروقة المعارضة العنينة، بين التمديد أو التوريث. بل لابد من أن تتنادى العقول الثقافية المصرية الحرة والمستقلة فى البحث عن سبل التغيير الجذرى الشامل الذى يتكفل بإنهاء كل من الفراغ والشحن. لابد أن تتنادى العقول المصرية الحرة والمستقلة لدراسة الأمر، وتشكيل لجنة مستقلة من حكماء مصر، لطرح بدائل جذرية، بعيدا عن التمديد أو التوريث، لما يدور فى مصر. فبدون هذا لن يسترد العقل الثقافى أو المثقف المصرى صوته الذى كان مسموعا فى الشارع المصرى من قبل، حتى شوشت عليه كلاب الحراسة. وبدون ذلك ليس ثمة طريق ناجع للخلاص يمكن مصر من تجنب هذه الهاوية التى يدفعها إليها الشحن الصهيونى النفطى الإسلامى معا.
فالكارثة التى شهدتها الإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية تجلب مشاهد الخراب العراقية إلى الأذهان، بما أسفرت عنه من دمار ومحاصصات طائفية، وتهجير الملايين، وتقسيم للبلد العربى العريق وفق مخططات مشبوهة، كى لا تقوم له قائمة فى المستقبل المنظور. ولا أظن أن هناك فى مصر من يريد لها أن تمضى خطوة واحدة أخرى فى هذا الطريق الملغوم والمشئوم. إذ تشكل المجزرة البشعة التى وقعت فى الإسكندرية صرخة دامية، لمن لم يتيقن بعد بأن مصر تنادى مثقفيها، بأن يتحركوا، وأن يكرسوا كل إمكانياتهم العقلية والمعرفية لتشخيص حقيقة الداء، ومعرفة أسبابه، والكشف عن المسكوت عنه فى هذا اللغط الشديد الذى يعقب كل كارثة تحيق بمصر، وقد أصبح تاريخها فى العقود القليلة الماضية، وفى ظل نظام والغ فى الفساد وعار من المصداقية والمشروعية، سلسلة متواصلة من الكوارث التى سرعان ما تنداح فى غياهب النسيان واحدة بعد الأخرى. فآفة حارتنا النسيان، كما قال نجيب محفوظ.
لكن ما جرى فى الإسكندرية مع مطلع هذا العام الجديد هو كارثة بأى معيار من المعايير، لا يجب أن يسمح لها العقل المصرى بأن تنداح هى الأخرى فى طوايا هذا النسيان المقيت. وإنما لابد أن يصحب هذا كله، تشخيص دقيق لأسباب المرض الذى تعانى منه مصر: والذى أجمله فى كلمتى العنوان: الفراغ والشحن. فماذا أعنى بالفراغ؟ أعنى به هذا الواقع الذى تعيشه مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة والذى يشبه الفراغ: فليس ثمة مشروع وطنى مصرى يلتف حوله الجميع، وترود أولوياته حركة المجتمع. فيتحقق الوطن من خلال انخراط أفراده فيه. وليس ثمة حركة سياسية بها تيارات فاعلة يمكنها أن تثير جدلا سياسيا أو تطرح أجندة للعمل الوطنى فى عالم يعج بالأجندات المتصارعة.
وقد امتد هذا الفراغ ليشمل كل مناحى حياتنا. بدءا من إفراغ مصر من عقلها النقدى فى السبعينيات، مرورا بإطلاق يد التأسلم السياسى فى شتى مناحى حياتها، حتى عم الظلام كل شىء. وانهارت الجامعات المصرية وانهارت معها بقية الخدمات من التعليم إلى الصحة وحتى الطرق والمواصلات العامة وغيرها. وتضاءلت قوة القانون حتى كادت تختفى فملأت البلطجة وقانون الغابة الفراغ. ولم ينم شىء فى مصر طوال تلك الفترة قدر نمو جهاز الشرطة القمعى. وتتابعت أجيال من الخريجين لتلتحق بطوابير البطالة، وانسد الأفق أمام الشباب الذى أخذ يتنامى شعوره بألا قيمة له ولا لحياته ولا لوطنه. والواقع أن هذا الشعور المتنامى لدى الشباب، الذى يفضل بعضه أن يموت غرقا فى البحر المتوسط جريا وراء سراب النجاة عبر الهجرة، على أن يبقى فى وطن يشعره كل يوم بألا قيمة له، هذا الشعور هو أبلغ دليل على ذلك الفراغ الذى اقصده.
فمنذ اتفاقيات كامب دافيد المشئومة، وهذا الفراغ يتخلق على جميع المستويات ويكتب نفسه فى خريطة مصر الاجتماعية والجغرافية معا، من خلال اتساع الفجوة المهولة بين نصف الشعب المصرى الذى يعيش الآن تحت خط الفقر، ويعيش أكثر من ربعه فى العشوائيات، وأقل من 3% من الشعب المصرى (أقل من مليونين) تنفق ببذخ، وتعيش بسفه فى المنتجعات السكنية المسوَّرة، فى القطامية والتجمع الخامس وما شابهها، بعقلية أشبه بعقلية المستوطنين فى فلسطين المحتلة، كما تقول جماعة دراسات القاهرة الحضرية التى أصدرت حتى الآن ثلاثة كتب مهمة، بالإنجليزية.
والواقع أن الفترة الممتدة منذ اتفاقيات كامب دافيد المشئومة وحتى الآن لم تشهد فقط تخليق هذا الفراغ، ولكن كان من أهم أهدافها إدخال المارد المصرى الذى طالما نشر أفكار التحرر والتقدم فى القارات الثلاث، وقاد حركة التحرر الوطنى فى المنطقة العربية والأفريقية من ورائها، إلى قمقم اتفاقيات السلام المغشوش. وعزل مصر عن أى فاعلية فى محيطها الإقليمى، ويجب ألا ننسى أن المقاطعة العربية لمصر عقب المعاهدة، وإن انتهت شكلا، إلا أنها بقيت موضوعا، وبقيت معها عزلة مصر عن أفريقيا التى سنجنى الكثير من ثمارها المسمومة. لأن الهدف الأساسى لمعاهدة الانصياع للمخطط الصهيونى، كان إطلاق يد الدولة الصهيونية فى المنطقة تعيث فيها فسادا والمصرى ينظر لكل ما يدور من حوله كظيما. بل تقدم آخرون من تركيا إلى إيران لملء الفراغ الناجم عن تكتيف المارد المصرى، وتحويله إلى جثة ضخمة من ثمانين مليونا، وضعت ممارسات الفساد نصفهم تحت خط الفقر كما ذكرت.
وسط هذا الفراغ والعجز وانسداد الأفق تم الأمر الثانى: الشحن. فماذا أعنى بالشحن؟ إنه ما يعقب كل تفريغ أو فراغ. فما أن فرغت مصر على شتى المستويات،السياسية والاجتماعية والعقلية، حتى كان من الضرورى، وهذا أمر ليس مفصولا عن معاهدة السلام المسموم، شحن هذا الفراغ على مستويين: أولهما هو الشحن الإسلامى، والثانى هو الشحن الصهيونى بدون ترتيب، لأنهما تمّا بالتزامن معا، وبالتفاعل مع بعضهما البعض من أجل تحقيق ما بدأت تجلياته البشعة فى مجزرة الإسكندرية، وما يستهدف تفتيت مصر والإجهاز عليها. لأن التفكيك الذى يخلق جغرافيا فى أقصى جنوب وادى النيل، والذى ستتحقق أولى ثماره بعد أسابيع فى تفكيك السودان، يتحول إلى تفكيك ديموجرافى فى أقصى شماله، بعدما تم الشحن الصهيونى والشحن الذى يدعو نفسه بالإسلامى.
وقد بدأت أبجديات الشحن الصهيونى فى ملاحق معاهدة كامب دافيد المشئومة التى فرضت على مصر التطبيع، وتبديل عقل النشء فيها، بأن تزيل من أطلسها اسم فلسطين، وأن تلغى من برامجها التعليمية كل ما من شأنه أن يعلم الطلاب أن دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين هى عدو مصر الأول والأخير. وبدأ الشحن باقتراح أعداء بديلين، وتخليق العداوات بين مصر وأشقائها العرب والأفارقة معا. واستمرت مسيرة الشحن طوال أكثر من ثلاثين عاما حتى أصبح النظام المصرى الراهن هو «الذخر الاستراتيجى» للعدو الصهيونى كما يقول مفكروه السياسيون. والغريب أن هذا الشحن الصهيونى الذى نجح فى أن يحول النظام الراهن فى مصر إلى الذخر الاستراتيجى له، كان يتم ويتواصل بينما هذا العدو الصهيونى يتآمر باستمرار على مصر، وآخر فصول هذا التآمر ليس قضية التجسس الأخيرة فحسب، وإنما أيضا تأليب جيران مصر الأفارقة عند منابع النيل للنيل من حصتها، وتقسيم السودان.
أما الشحن الذى يسمى بالإسلامى فحدث عنه ولا حرج، وقد كان أول من تنبه إلى خطورته المدمرة هو المثقف العقلانى الكبير جمال حمدان فى (شخصية مصر) حينما كتب «إن الصحوة الإسلامية التى تتحدث عنها الجماعات المتطرفة ما هى إلا صحوة الموت أو رقصة الذبيح، بعد طول احتضار استمر قرنا أو قرنين. وهى صحوة نفطية مبعثها البترول المجنون ليس إلا» وأضيف إليه الدعوة الوهابية ضيقة الأفق، والتى نجحت فى التغلغل فى شتى مناحى الحياة اليومية للمصريين من «عقيقة» أطفالهم، حتى معمار بناء مقابرهم التى جلبت لها النزعة الوهابية القبح والبشاعة. وهو شحن مستمر وممول وهابيا منذ أكثر من أربعة عقود، يملأ الواقع المصرى بكل صور العنف الرمزى ضد كل من لا ينصاع لرؤيته المتخلفة، من تحجيب المرأة حتى تحجيب العقل، وفرض التحية الإسلامية عند الرد فى التليفون على غير المسلمين، إلى الميكروفونات الموجهة على شقق قبط مصر والتى تنطلق منها أنكر الأصوات، وغيرها من الممارسات التى ساهمت فى خلق هذا الاحتقان الطائفى المقيت. وهو تأسلم منافق مشبوه يصيبه العى والخرس حينما يتصل الأمر بتصرفات دولة الاستيطان الصهيونى فى تهويد القدس، أو تهديد منابع النيل فى الجنوب، ويتنادى صارخا «وا إسلاماه!» حينما يتعلق الأمر بشق الصف فى مصر، أو بفرض التخلف الوهابى عليها، أو بقبطية يقال إنها أسلمت. وكلنا يعرف، كما أثبت عالم الاجتماع العظيم بيير بورديو، أن كل عنف يبدأ رمزيا ثم يتحول إلى عنف دموى، سرعان ما بدأت تجلياته فى المسلسل الممتد من الكشح ونجع حمادى وصولا إلى مجزرة الإسكندرية.
لقد انتهى هذا الشحن المزدوج بمصر إلى هذه المجزرة البشعة والتى تعد فى مستوى من مستوياتها أولى نتائج نجاح أحمد عز الساحق فى تزوير الانتخابات، واستبعاد كل قوى المعارضة السلمية، حتى لم يعد أمام التأسلم المخبول خيار إلا تلك المعارضة المجنونة. لهذا كله لم يعد كافيا أن يتأرجح صوت المثقفين، فى التعامل مع الأزمة البنيوية للنظام المصرى، ولمصر من ورائه، بترجيح أحدى كفتى الجدل الدائر فى أروقة المعارضة العنينة، بين التمديد أو التوريث. بل لابد من أن تتنادى العقول الثقافية المصرية الحرة والمستقلة فى البحث عن سبل التغيير الجذرى الشامل الذى يتكفل بإنهاء كل من الفراغ والشحن. لابد أن تتنادى العقول المصرية الحرة والمستقلة لدراسة الأمر، وتشكيل لجنة مستقلة من حكماء مصر، لطرح بدائل جذرية، بعيدا عن التمديد أو التوريث، لما يدور فى مصر. فبدون هذا لن يسترد العقل الثقافى أو المثقف المصرى صوته الذى كان مسموعا فى الشارع المصرى من قبل، حتى شوشت عليه كلاب الحراسة. وبدون ذلك ليس ثمة طريق ناجع للخلاص يمكن مصر من تجنب هذه الهاوية التى يدفعها إليها الشحن الصهيونى النفطى الإسلامى معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق