السبت، 8 يناير 2011

داود عبد السيد: إذا أغلقت أبواب العقول فحرض كيفما تشاء

طارق مصطفى – محمد عادل
روز اليوسف 8-1-2011
فى الأسبوع الماضى كانت من أهم الملحوظات التى خرجنا بها من قائمة العشرة أفلام الأهم فى العشر سنوات الأخيرة هى وجو 3 أفلام لمخرج واحد هو «داوود عبدالسيد» وهذا لا يعنى سوى شىء واحد وهو أن «داوود» كمخرج وكمفكر قادر على تطوير مشروعه السينمائى باستمرار وضخ أفكاره وهمومه فيه بشكل عميق وثرى بصريا ومن هنا تجىء أهميته.

عندما رتبنا للحوار كان فى ذهننا أن تكون أسئلتنا متعلقة فى الأساس بذلك المشروع السينمائى ولكن التفجيرات المفزعة التى شهدتها مصر فى الليلة الأخيرة من2010 وضعتنا أمام تساؤلات كثيرة عن العنف، الطائفية، والتحولات الاجتماعية الكثيرة التى نشهدها مؤخرا، ولأن هذه الأسئلة فى النهاية هموم تشغل المفكر السينمائى طوال الوقت وتلح عليه طرحناها على «داوود عبدالسيد» فكان هذا الحوار:

*
فى فيلمك الأخير «رسائل البحر» لعبت الإسكندرية دور البطولة، ولكنها لم تكن الإسكندرية التى نعرفها. فقدت الكثير من تحررها وملامحها، والمفارقة أن نفس المدينة كانت بطلة أحداث العنف الطائفى والإرهاب أخيرا.. من وجهة نظرك ما الذى حدث للإسكندرية؟

- «
دعنى أقل لك أن الإسكندرية لم تفقد روحها، ولا تجعل الصورة التى تراها أمامك تخدعك، أنا أتصور أنه مازال هناك الكثير من مظاهر التحرر فى الإسكندرية، مازال هناك نفس الذوق ونفس الوعى ولكن فى نفس الوقت علينا الاعتراف بأن هناك تياراً سلفياً قوياً بالإسكندرية. ذلك التيار هو الذى جعلك تتصور أن الإسكندرية فقدت ملامحها.

مازلت أذكر أثناء تصوير «رسائل البحر» صادفت الكثير من الملصقات على الصخور المواجهة للبحر مليئة بتوجيهات أخلاقية تحجم العلاقة بين الولد والبنت، ولكن فى الوقت نفسه كنت أصادف كثيرا من الردود التى كتبها هؤلاء الشباب ردا على تلك الملصقات. أى أنك فى الإسكندرية تستطيع أن تجد المحافظة الشديدة وفى مواجهتها المقاومة العنيفة». 
* ولكن لماذا تغيرت الإسكندرية؟

-
الإسكندرية كمدينة شهدت على مدار عقود طويلة وجود أعراق وديانات وجنسيات مختلفة وهذا هو الأمر الذى منحها طابع التحرر الذى طالما اتسمت به ولكن هذا التنوع قد انتهى تقريبا، وبالتالى اختفى المناخ الذى كان داعما لقبول الآخر والتفتح وبذلك وصلنا إلى ما نراه اليوم.

أذكر أننى عندما ذهبت إلى شاطىء المنتزه منذ15 عاماً مثلا لم تستطع زوجتى النزول إلى البحر لأنه ببساطة لم تكن هناك أى امرأة مرتدية «المايوه»، وهذا لم يكن الوضع قديما مثلا.

علينا الاعتراف بأن هناك تياراً سلفياً قوياً فى مصر الآن، ونعم لقد نجح هذا التيار فى فرض نفسه.

*
ولكن لماذا أصبحت الناس مهيأة بذلك الشكل للخطاب الدينى السلفى أو التحريضى؟

- «
إذا أغلقت أبواب العقول فحرض كيفما تشاء. لأنه ببساطة الشىء الوحيد القادر على وقف العملية التعبوية هو وجود عقل ناقد. وللأسف الشديد لم يعد هناك الآن الكثير من العقول الناقدة والباحثة أو المفكرة القادرة على الوقوف فى مواجهة عملية التحريض».
إذن ما الذى أغلق العقول؟

-
عدة أشياء أولها هزيمة 67 التى كانت هزيمة لعدد من الشعوب فى آن واحد فشعر الجميع أن المعبد قد تهدم وبالتالى أصبحت الفكرة الملحة على الجميع هى اللجوء إلى الله، أى أن التيار القومى تراجع وحل بدلا منه التيار الدينى. يجىء بعد ذلك موت عبدالناصر ثم تولى السادات الحكم والذى لعب لعبة سياسية نتج عنها أن أصبح الإسلام السياسى مسيطرا على كل مجالات الحياة.

بعد مقتل السادات أصبحت اللعبة مختلفة. حيث أصبح اللعب بمنطق «لا يفل الحديد إلا الحديد» وهنا بدأ السماح أكثر للإخوان المسلمين فى مواجهة التيارات الدينية. أضف إلى ذلك أن الناس فى مصر بفطرتها تميل إلى التوجه نحو الدين خاصة عندما يكون هناك معاناة من أزمة سياسية واقتصادية بل واجتماعية وهو ببساطة وضع المجتمع المصرى الآن.

دعنا لا ننسى أيضا عاملاً آخر مهماً وهو وجود إسرائيل لأنه ببساطة وجود كيان دينى معاد يستدعى بالضرورة الكيان الدينى الآخر.

وبالطبع ساعد على كل ذلك أن معظم الخطاب الدينى الموجود الآن خطاب متخلف ولا يعبر عن اتجاه دينى حقيقى ولذا يفترض أن الآخر هو عدوه.

*
هل نستطيع أن نقول أن التعليم ساهم فى ذلك؟

-
التعليم والإعلام على حد سواء وهذا أمر واقع منذ أيام الرئيس السادات وحتى الآن. فإذا تحدثنا عن الإعلام تحضرنى هنا واقعة ما تخص مسلسلاً تاريخياً دينياً كان يعرض فى بداية الثمانينيات والذى كان يصور فرعون الكافر وكيف أنزل الله عليه غضبه. وبالمناسبة هذا المسلسل كان يذاع على التليفزيون المصرى. وكان التليفزيون يقدم مسلسلا معاديا لتاريخه ويصفنا بأننا أحفاد الكفرة. أى أن المصريين هم «أحفاد الكفرة». 
القنوات الدينية مثلا لعبت دورا فى إشعال الأمور؟

-
إلى حد ما ولكنى سأسرد لك واقعة ليست لها علاقة بالقنوات الدينية. حوار سليم العوا مثلا والذى كان على قناة الجزيرة والذى تحدث فيه عن الكنيسة وعن ترسانة الأسلحة التى تملكها وما إلى ذلك. دعنى أقل لك إن ذلك الحوار كان خطاباً تحريضياً سافراً من مقدمه وضيفه.

ولكن علينا الاعتراف بأن هذه النغمة ليست السائدة بالإعلام الخاص.

*
وماذا عن الإعلام المصرى أو التليفزيون المصرى؟

-
لست ممن يهوون مشاهدة أو تصديق الإعلام المصرى أو بالتحديد الإعلام الحكومى لأنى لا أثق دائما فيما يقدم. ولأنى مقتنع أن الإعلام المصرى «الحكومى» يعمل لصالح الدولة الدينية.
كيف؟

-
لأنك ببساطة كنت ومازلت أمام محاولة لأسلمة معظم المضامين التى تقدم لدرجة أن تصل إلى اللحظة التى تحاول فيها أن تثبت أن كل كشف علمى كان موجوداً فى القرآن. حدث ذلك من خلال «زغلول النجار» ومن قبله «مصطفى محمود» وبالتالى عندما تقدم هذا الفكر طوال الوقت إذا أنت بذلك تعمل لصالح الدولة الدينية ولصالح إضفاء الصبغة الدينية على كل ما يقدم.

وهذا ليس فقط فى الإعلام وإنما ما يحدث فى المجتمع الآن حيث الصفة الدينية هى المسيطرة وناهيك عن أن الدستور نفسه متأرجح ما بين الدولة الدينية والدولة المدنية. أو ليس هذا كله لصالح الدولة الدينية؟.

صدقنى أنا لست أتحدث

كـ«مسيحى» وإنما كمواطن مصرى لذا تستوقفنى ظواهر كثيرة مثل أن يعفى القانون كل من يبنى زاوية أو مصلى من الضرائب.

أنا إنسان محب للعمارة وصدقنى عندما أقول لك إنى أعشق المسجد الذى له قيمة معمارية وجمالية ولذا أحزن عندما تختفى هذه القيم المعمارية من «الزوايا».

وأيضا كمواطن مصرى أتساءل كيف تستطيع بناء زاوية بسهولة فى الوقت نفسه الذى لا يستطيع فيه شخص آخر بناء كنيسة.. أفلا يخلق هذا نوعا من الاحتقان؟.

*
ولكن لماذا اشتد الاحتقان الطائفى الآن.. هل له علاقة بالأزمة الاقتصادية مثلا؟

-
لأن الأزمة تخلق مناخاً تنافسياً وطائفياً. فمثلا إذا تصورنا أن هناك وظيفة يتقدم لها4 أشخاص بالطبع سأختار فى مثل تلك الظروف من ينتمى إلى دينى.

نعم الفكر الطائفى ينتعش فى الوقت الذى تشتد فيه الأزمات الاقتصادية وعندما يكون الإنسان مأزوماً فيجد من يحاول أن يقنعه طوال الوقت أنه الأعظم وأن ما يملكه وينتمى إليه هو الأفضل ويصيغ له ذلك الوهم حتى يصدقه وحينها يراوده إحساس بالتفوق الزائف. ولكن لماذا نتجاهل أيضا الوضع السياسى القائم؟

علينا الاعتراف بأننا عندما نلغى السياسة والانتماءات السياسية لا يصبح لدينا ما ننتمى إليه سوى الدين والذى يغلى كل ما عداه خاصة عندما تكون العقول كما أشرت من قبل مغلقة الأبواب بل وتعيش فى جهل.

وأعود مرة أخرى لأكرر أن هذه خطيئة الدولة التى حاولت استغلال الدين لأسباب سياسية وبالتالى كان ما فعلته سببا منطقيا لاختفاء السياسة من حياة المجتمع المصرى.

إذا عدت بذهنك إلى الأربعينيات والثلاثينيات مثلا تجد أن الوفد قام على وجود العنصرين المسلم والمسيحى. والحركة الشيوعية ضمت عناصر مسلمة، مسيحية بل ويهودية أيضا.

*
ما الذى يلح على مشروع «داوود عبدالسيد» السينمائى الآن؟

-
شخصيا أستطيع أن أقول أن الفكرة الصوفية تراودنى بشدة هذه الأيام وربما يكون ذلك بفعل السن أما إذا كنا نتحدث عن البعد الاجتماعى فأتصور أن فكرة الانتظار هى الملحة الآن.

بمعنى أن المجتمع الآن فى لحظة انتظار لكى يحدث تغيير. وحتى الآن ليست هناك أى دلائل تشير إلى قرب حدوث هذا التغيير، ولا أحد يعرف ما إذا كان سيحدث الآن أم بعد سنوات. يمكنك القول إننا فى لحظة تجمد.

المجتمع بأكمله غير راض عن أى شىء أو عن النظام السياسى والاقتصادى ويحاول تعويض عدم الرضا هذا بـ «شوية حاجات» كأن يفوز فى مباراة لكرة القدم فيصبح فى حالة هستيرية غير مبررة.

لم نعد راضين ولم نعد نعلم كيف نسير، لأنهم أخذوا منا البوصلة والخريطة بل والعربة التى يمكنها أن تقلك إلى وجهة ما. وأصبحنا كلنا واقفين لا نعلم إلى أين نتجه.. بالضبط مثل نهاية رسائل البحر.

*
دعنا نعد إلى «أرض الأحلام» وليس «رسائل البحر».. لو كانت «نرجس» موجودة معنا الآن هل كان قرارها سيكون الرفض لفكرة السفر؟

-
بالطبع.. لن تسافر نرجس ببساطة لأن أرض الأحلام هى أرض أحلامك أنت.. وأرض أحلام «نرجس» هى مصر وليس أمريكا. ولكن الوضع ربما يكون مختلفا بالنسبة لشاب يشعر بأن كل الأبواب مغلقة أمامه وبالتالى لا يوجد أمل بالنسبة له سوى الهروب.

*
ولكن «فرانشيسكا» تركت مصر فى «رسائل البحر»؟

-
أبطال رسائل البحر لم يكن فى رغبتهم أن يتركوا المدينة ولكن أزمتهم أن المجتمع أصبح طاردا وبالتالى هى لم تهرب ولم تشأ أن تهاجر. بل إن صراعها فى الفيلم منطلق من فكرة إصرارها على البقاء وليس الهجرة.

وللأسف الآن أصبح من السهل جدا بالنسبة للناس أن يتركوا المكان ويرحلوا.

*
وما تفسيرك لهذا؟

-
لأن الناس لم تعد تعرف كيف تتقدم وفى أى اتجاه وعدم الرضا أصبح هو محركها الأساسى. الوضع جعل الشباب غير راض بل وغير قادر أحيانا ثم إن هناك فئات عمرية وطبقية غير قادرة من الأساس على أن تعيش الحياة كيفما تريد. ثم دعنى أسألك أنا سؤالا: ما الذى يدفع إنسانا أن ينفق أموالا من أجل أن يصعد على مركب قد تكون وجهتها موته؟..

لذا استوقفنى مثلا فيلم «أولاد العم» وجعلنى أتساءل وماذا عن المصريين المقيمين فى إسرائيل..؟ ما حكاياتهم؟ هل هم خونة مثلا؟ هؤلاء المصريون الذين يريد البعض أن يسحب منهم جنسيتهم المصرية رغم أنهم ذهبوا إلى هناك بحثا عن حياة شبه كريمة لأنى مؤمن بأن الحياة الكريمة هى الحياة التى تعيشها فى بلدك كمواطن حر ومحترم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق