مصريون يتظاهرون أمام وزارة الخارجية فى القاهرة أمس (أ ب)
طلال سلمان
السفير اللبنانية 3-1-2011
دوى الانفجار القاتل في كنيسة القديسين مار مرقس والأنبا بطرس بالاسكندرية في مشارق الأرض العربية ومغاربها التي تكتب يومياتها الآن بدماء أبنائها، كجرس إنذار بزلزال يتهدد مصر ومعها المستقبل العربي جميعاً بخطر داهم على المصير: ها هي النار تلفح ملجأنا وملاذنا الأخير الذي كنا نفزع إليه من حروبنا الأهلية وهشاشة مجتمعاتنا وضعف كيانات دولنا التي استولدت قيصرياً، والفتن المدبرة لخدمة أعدائنا وأولهم الإسرائيلي الذي يختزل في عدائه معظم قوى الهيمنة الاستعمارية في الكون.
ها هي «الدولة» بين كياناتنا، التي استنبتت لأغراض الآخرين، تأخذها الغفلة فيضرب فيها التطرف الأصولي، عدو العروبة ومشوّه الدين الحنيف وخصم الأمن الاجتماعي، ويسيء إلى الطبيعة السمحاء لأهلها الذين عرفوا ـ أخيراً ـ «التعصب» كمرض وافد، وهم الذين اشتهروا على مر الزمن بأنهم الأرحب إيماناً والأعظم نفوراً من المتزمتين والمتشددين في تفسير التعاليم بما يخالف أحكام الشريعة وأصول الإيمان.
ها هو «المجتمع» الذي كان النموذج في صلابة وحدته والقدوة في رحابة تديّنه وفي تفويض «الدولة» بأموره كافة، باعتبارها المرجعية الشرعية، يرّجه القلق ويواجه حالة طارئة على تقاليده وأعرافه، هو الكاره للشدة في الدعوة وللعنف في الممارسة، فكيف إذا ما بلغت حد القتل الجماعي للمؤمنين المتداعين للصلاة احتفاء بالميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة (التي يتمنى أن يراها واعدة) في البلاد التي يسودها ذلك النوع الفريد من الإيمان الصوفي الذي يرى كل فرد فيه أنه يقربه من الله؟!
إذن، فمن اختار أن يضرب في مصر، وفي الاسكندرية تحديداً، وفي الكنيسة بالذات ليقتل المصلين، قد أصاب المسلمين جميعاً، داخل مصر وخارجها، ثم أنه قد أذى صورة «الدولة» في مصر، وهي المرجعية الأولى والأخيرة، واختار أن يمد الإرهاب إلى «المركز» بعد أن ضرب فأوجع في لبنان والعراق واليمن والسودان والجزائر إلخ..
أن يضرب الإرهاب في مصر فهذا يعني أن الإصابة ستكون في القلب، وأن شظاياها ستتطاير حاملة معها أخطار الحريق إلى كل الدنيا العربية.
إنه الإنذار الأعظم جدية وخطورة للأمة جميعاً، بتاريخها، بحاضرها، بمستقبلها كما بدورها.
كان لمصر، عربياً، وأفريقيا إلى حد بعيد، بل وإسلامياً أيضاً، دور معطل الصواعق، مقدم النموذج الناجح لقدرة المجتمع الموحد على الإنجاز، ولخطورة دور الدولة في حماية «الوطن»، ثم لخطورة دور مصر في حماية الأوطان العربية من حولها، ويشهد اللبنانيون، بدمائهم، على فعالية ذلك الدور في التاريخ الذي سبق تيه السلطة في القاهرة التي أخذت مصر إلى الصلح مع العدو الإسرائيلي بشروطه وتحت الرعاية الأميركية.
وبرغم هذه الخطيئة المميتة ظل العرب ينظرون إلى مصر على أنها متعبة بأوضاعها الاجتماعية، بالتزايد الهائل لعدد السكان فيها، بالاحتياج إلى الرساميل التي تساعدها على النهوض وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لأهلها... وأنها لا بد عائدة إلى دورها الذي لا تعوضها فيه أية دولة عربية أخرى.
لقد خافوا عليها وهي تخضع لـ«سلام» عدوها، بينما كانوا ينظرون إليها بالإكبار والتقدير وهي تواجه فتقاتل، برغم فقرها، وتحقق الإنجاز العظيم بالعبور، خلال حرب تشرين، وتقارب النصر الذي كان يمكن أن يغيّر تاريخ المنطقة، ثم تأخذها الغواية الأميركية إلى السلام الإسرائيلي الذي لم يوفر لها الخبز ولا فرصة التقدم، وإن هي دفعت ثمنه باهظاً من دورها وحقها في القيادة، عربياً وإسلامياً وفي أوساط عدم الانحياز: هل نسينا أن القاهرة كانت ـ ذات يوم ـ إحدى عواصم القرار الدولي؟!
[ [ [
÷ ملاحظة شخصية: على امتداد عقدين من الزمان كنت خلالهما مراسلاً صحافياً لدار الصياد، عرفت ـ في ما أزعم ـ مصر من الداخل، عبر كتابها وأدبائها ورسّاميها المبدعين وفنانيها وجمهور الزملاء الصحافيين في «الأهرام» و«الأخبار» و«روز اليوسف» ومعها «صباح الخير» فضلاً عن مطبوعات دار الهلال. ضمني الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ إلى «حرافيشه»، وأخذني لطفي الخولي إلى المنسبين إلى «التنظيم الطليعي» بعد «توبة» الشيوعيين، وعرفت العديد من المفكرين الإسلاميين. دخلت بيوتهم وتعرفت إلى أسرهم وأخذت عنهم بعض تقاليدهم. عرفت مصر أيام جمال عبد الناصر ثم أيام أنور السادات وأخيراً أيام حسني مبارك. سمعت المعترضين على «تعريب» مصر، وناقشت الموافقين على الصلح مع العدو الإسرائيلي
بعد «حرب رمضان» التي رأوا فيها إبراءّ لذمة مصر من فلسطين والتفاتاً إلى بؤس أوضاع أهلها الفقراء الذين يرون «العرب» في رواد شارع الهرم وملاهيه أو مشايخ نفط يتعاملون معهم بتعال كريه، ويطردونهم من «دولهم» المبتدعة والغنية وهم بين بُناتها الأوائل.
سمعت سائق التاكسي يرد على من يسأله عن العروبة بسؤال: «لا مواخذه، سيادتك، هو النبي محمد مش عربي... يبقى خلاص»!
وشاركت في نقاش صاخب ذات يوم، في مكتب توفيق الحكيم في «طابق الخالدين» بمبنى «الأهرام»، أيام كان محمد حسنين هيكل قائد مسيرتها الناجحة، بين أديب الرحلات الحسين فوزي، والكاتب المميز لويس عوض، كان أولهم مصري الاهتمامات مثاله في التقدم فرنسا، والثاني يرى أن مستقبل مصر في علاقتها بأوروبا ثم أميركا وأن ليس لها علاقة بالعرب أو بالشرق إلا من خلال موقعها الجغرافي.. وفوجئت ـ شخصياً ـ بلويس عوض ينفجر بصديقيه قائلاً: اسمع يا توفيق، واسمع أنت يا حسين، أمن مصر القومي يبدأ عند جبال طوروس، من أيام الفراعنة وحتى أيامنا هذه، وإسرائيل عدونا الذي فرض علينا العداء، وعلينا أن نحمي مصر، فإسرائيل خطر على مصر أولاً، وخطرها على مصر أعظم من خطرها على أي بلد عربي..
÷ ملاحظة: لم يكن أي من الثلاثة معجباً بجمال عبد الناصر أو من المؤمنين بالعروبة هوية ومصيراً.
÷ ملاحظة ثانية: سمعت العديد من أهل الرأي في مصر، عبر العهود المختلفة، ينتقدون شيئاً من التمييز في تعامل «الدولة» بين المسلم والقبطي، ويعتبرون أن هذا الخلل خطير حتى لو لم يكن مقصوداً، ويلحون على ضرورة أن تتولى الدولة علاجه (في الحكومات والإدارات ومجالات التوظيف كافة) مرة وإلى الأبد.
سمعت كذلك عن محاولة تكتيل الأقباط الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية في «مدارس الأحد»، ودفعهم نحو «البروتستانتية»، واستخدامهم في رفع شعار «الدولة القبطية»، وسمعت النخبة من أقباط مصر يعتبرون أولئك من الخونة والعملاء أو المضللين في أحسن الحالات.
استمعت إلى البابا شنودة وإلى غيره من القسس والرهبان وهم ينبهون إلى خطر إسرائيل ويلقون الحُرم على من يتعامل معها بوصفها عدواً للشعب والدولة والدين، بينما مشايخ المسلمين، بمن فيهم شيخ الأزهر يفتون بشرعية الصلح مع هذا العدو..
÷ ملاحظة ثالثة: كنت أمضي غالب أوقات فراغي من عملي، خلال زياراتي القاهرة، في المؤسسات الصحافية: روز اليوسف (وضمنها صباح الخير) والأهرام ودار الهلال صحبتي هم الكتاب والمبدعون أدباً ورسماً وكاريكاتوراً ومسرحاً وسينما. ولقد عجزت عن التمييز بين المسلم والقبطي منهم، برغم حدة «غرائزي» اللبنانية.. كيف تعرف أن مضيفك الذي دعاك إلى إفطار رمضاني في بيته هو «قبطي»؟ خصوصاً عندما ترى القناديل في أيدي أطفاله الذين سيخرجون بعد قليل للمشاركة في المهرجان الرمضاني الليلي مرددين مع أترابهم «وحوي يا وحوي.. رمضان جانا»؟!
[ [ [
سمعت أقباطاً مصريين يتباهون، على الطريقة اللبنانية، بأنهم أساس مصر، فيرد عليهم أقباط آخرون بالقول: ومَن هم السبعون مليوناً الباقون؟ هل هم من الوافدين أو من الطارئين؟! كلنا، مع بعض، مصر.
ولقد عاملني الكثير من المصريين الأقباط بإشفاق، خلال دهر الحروب الأهلية اللبنانية: ماذا تفعلون ببلدكم الجميل؟ كيف تقدمون الطوائف أو حتى الدين على الوطن؟ كيف تقدمون المعتقد الديني على الهوية الوطنية والقومية، إذا شئت؟ الدين لله، أما الوطن فهو لجميع أبنائه، والدولة هي الراعي الصالح. لماذا تتصارعون؟ العيب في السلطة عندكم. السلطة الضعيفة مصدر خطر على الدولة. نحن هنا بخير، برغم بؤس أوضاعنا المعيشية لأن الدولة تنوب عن الله في الأرض. هي مرجع الناس. أين إيمانكم بوطنكم؟ أين دولتكم؟ لو أن لديكم دولة لما أصابكم ما يصيبكم؟!
[ [ [
ليست الوطنية (ومعها العروبة) في مصر خطاباً حماسياً وتظاهرة صاخبة وشعارات مدوية الرنين. إنها الإيمان بذاته، ولو غابت فصاحة التعبير. وفلسطين تسكن قلوب جميع المصريين الذين تمتلئ جدران بيوتهم بصور الشهداء الذين دفعوا حياتهم في المواجهات مع العدو الإسرائيلي على امتداد ربع قرن أو يزيد. وليس أعظم من القهر الذي يعتصر قلب المواطن المصري وهو يرى العلم الإسرائيلي يرفرف في سماء القاهرة، في مواجهة جامعتها التي خرّجت أجيال النخبة من أبناء الأمة العربية يقول لك السائق: «دي خرقة.. ما تدقش. بس لو العرب كانوا كلمة واحدة وحفظوا مصر لما كنا تورطنا مع هؤلاء الصهاينة الذين يكرههم العالم كله... بس سيدنا موسى ما كانش كده أبداً».
[ [ [
إن من ضرب في مصر إنما ضرب العرب جميعا: إنه يحاول هز إيمانهم بوحدة المصير. إنه يحاول أن يحرف إسلامهم بالتعصب وهم أكثر المسلمين ورعاً. إنه يحرّضهم على أهلهم داخل مصر. ثم إنه يصيب الوحدة الوطنية في كل بلد عربي. إنه يضرب القلب. إنه لا يستهدف النظام، وإن كان ضعف النظام في الإنجاز وفي توطيد أركان الوحدة الوطنية يسهل له مهمته. إنه يستهدف في مصر الأمة جميعاً من أدنى المشرق إلى أقصى المغرب.
إن العرب في مختلف أقطارهم ينزفون الآن دماءهم في كنيسة القديسين مار مرقس والأنبا بطرس بالاسكندرية.
صحيح أن الضربة قد استهدفت مسيحيين في كنيسة لكن ضحاياها خارج الكنيسة بالملايين. إنهم عموم العرب، بأكثريتهم الإسلامية وأشقائهم المسيحيين، وكلهم يرجع إلى الأصل ذاته... الكل ضحايا الإرهاب، وكل طرف بحجمه، لكن الخسارة عامة وفادحة.
إنها حرب على الهوية الوطنية، على الشعور بوحدة الانتماء إلى الأرض والتاريخ المشترك. إنها حرب على المستقبل. في هذا القطر تستهدف طائفة، وفي قطر آخر تستهدف الدين الثاني. وفي كل الحالات هي تستهدف وحدة الشعب في كل بلد عربي، من لبنان إلى العراق، ومن البحرين إلى اليمن، والبقية تأتي..
لكن مصر بتكوينها أقوى من الفتنة. إن وحدة شعبها راسخة لا تصدعها العمليات الإرهابية. ثم إن دولتها «أزلية» الثبات، ومسؤولية السلطة أن تحمي الدولة باعتبارها قاعدة الوحدة الوطنية وضمانتها العظمى.
إن التآمر على مصر هو ذروة التآمر على العرب في حاضرهم ومستقبلهم. وردة الفعل العربية، شعبياً ثم رسمياً، كانت عظيمة الدلالات: لقد أحس كل عربي أن نار الفتنة تتهدده في منزله.
وعلى العرب أن يحموا حاضرهم ومستقبلهم بحماية مصر.
ها هي «الدولة» بين كياناتنا، التي استنبتت لأغراض الآخرين، تأخذها الغفلة فيضرب فيها التطرف الأصولي، عدو العروبة ومشوّه الدين الحنيف وخصم الأمن الاجتماعي، ويسيء إلى الطبيعة السمحاء لأهلها الذين عرفوا ـ أخيراً ـ «التعصب» كمرض وافد، وهم الذين اشتهروا على مر الزمن بأنهم الأرحب إيماناً والأعظم نفوراً من المتزمتين والمتشددين في تفسير التعاليم بما يخالف أحكام الشريعة وأصول الإيمان.
ها هو «المجتمع» الذي كان النموذج في صلابة وحدته والقدوة في رحابة تديّنه وفي تفويض «الدولة» بأموره كافة، باعتبارها المرجعية الشرعية، يرّجه القلق ويواجه حالة طارئة على تقاليده وأعرافه، هو الكاره للشدة في الدعوة وللعنف في الممارسة، فكيف إذا ما بلغت حد القتل الجماعي للمؤمنين المتداعين للصلاة احتفاء بالميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة (التي يتمنى أن يراها واعدة) في البلاد التي يسودها ذلك النوع الفريد من الإيمان الصوفي الذي يرى كل فرد فيه أنه يقربه من الله؟!
إذن، فمن اختار أن يضرب في مصر، وفي الاسكندرية تحديداً، وفي الكنيسة بالذات ليقتل المصلين، قد أصاب المسلمين جميعاً، داخل مصر وخارجها، ثم أنه قد أذى صورة «الدولة» في مصر، وهي المرجعية الأولى والأخيرة، واختار أن يمد الإرهاب إلى «المركز» بعد أن ضرب فأوجع في لبنان والعراق واليمن والسودان والجزائر إلخ..
أن يضرب الإرهاب في مصر فهذا يعني أن الإصابة ستكون في القلب، وأن شظاياها ستتطاير حاملة معها أخطار الحريق إلى كل الدنيا العربية.
إنه الإنذار الأعظم جدية وخطورة للأمة جميعاً، بتاريخها، بحاضرها، بمستقبلها كما بدورها.
كان لمصر، عربياً، وأفريقيا إلى حد بعيد، بل وإسلامياً أيضاً، دور معطل الصواعق، مقدم النموذج الناجح لقدرة المجتمع الموحد على الإنجاز، ولخطورة دور الدولة في حماية «الوطن»، ثم لخطورة دور مصر في حماية الأوطان العربية من حولها، ويشهد اللبنانيون، بدمائهم، على فعالية ذلك الدور في التاريخ الذي سبق تيه السلطة في القاهرة التي أخذت مصر إلى الصلح مع العدو الإسرائيلي بشروطه وتحت الرعاية الأميركية.
وبرغم هذه الخطيئة المميتة ظل العرب ينظرون إلى مصر على أنها متعبة بأوضاعها الاجتماعية، بالتزايد الهائل لعدد السكان فيها، بالاحتياج إلى الرساميل التي تساعدها على النهوض وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لأهلها... وأنها لا بد عائدة إلى دورها الذي لا تعوضها فيه أية دولة عربية أخرى.
لقد خافوا عليها وهي تخضع لـ«سلام» عدوها، بينما كانوا ينظرون إليها بالإكبار والتقدير وهي تواجه فتقاتل، برغم فقرها، وتحقق الإنجاز العظيم بالعبور، خلال حرب تشرين، وتقارب النصر الذي كان يمكن أن يغيّر تاريخ المنطقة، ثم تأخذها الغواية الأميركية إلى السلام الإسرائيلي الذي لم يوفر لها الخبز ولا فرصة التقدم، وإن هي دفعت ثمنه باهظاً من دورها وحقها في القيادة، عربياً وإسلامياً وفي أوساط عدم الانحياز: هل نسينا أن القاهرة كانت ـ ذات يوم ـ إحدى عواصم القرار الدولي؟!
[ [ [
÷ ملاحظة شخصية: على امتداد عقدين من الزمان كنت خلالهما مراسلاً صحافياً لدار الصياد، عرفت ـ في ما أزعم ـ مصر من الداخل، عبر كتابها وأدبائها ورسّاميها المبدعين وفنانيها وجمهور الزملاء الصحافيين في «الأهرام» و«الأخبار» و«روز اليوسف» ومعها «صباح الخير» فضلاً عن مطبوعات دار الهلال. ضمني الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ إلى «حرافيشه»، وأخذني لطفي الخولي إلى المنسبين إلى «التنظيم الطليعي» بعد «توبة» الشيوعيين، وعرفت العديد من المفكرين الإسلاميين. دخلت بيوتهم وتعرفت إلى أسرهم وأخذت عنهم بعض تقاليدهم. عرفت مصر أيام جمال عبد الناصر ثم أيام أنور السادات وأخيراً أيام حسني مبارك. سمعت المعترضين على «تعريب» مصر، وناقشت الموافقين على الصلح مع العدو الإسرائيلي
بعد «حرب رمضان» التي رأوا فيها إبراءّ لذمة مصر من فلسطين والتفاتاً إلى بؤس أوضاع أهلها الفقراء الذين يرون «العرب» في رواد شارع الهرم وملاهيه أو مشايخ نفط يتعاملون معهم بتعال كريه، ويطردونهم من «دولهم» المبتدعة والغنية وهم بين بُناتها الأوائل.
سمعت سائق التاكسي يرد على من يسأله عن العروبة بسؤال: «لا مواخذه، سيادتك، هو النبي محمد مش عربي... يبقى خلاص»!
وشاركت في نقاش صاخب ذات يوم، في مكتب توفيق الحكيم في «طابق الخالدين» بمبنى «الأهرام»، أيام كان محمد حسنين هيكل قائد مسيرتها الناجحة، بين أديب الرحلات الحسين فوزي، والكاتب المميز لويس عوض، كان أولهم مصري الاهتمامات مثاله في التقدم فرنسا، والثاني يرى أن مستقبل مصر في علاقتها بأوروبا ثم أميركا وأن ليس لها علاقة بالعرب أو بالشرق إلا من خلال موقعها الجغرافي.. وفوجئت ـ شخصياً ـ بلويس عوض ينفجر بصديقيه قائلاً: اسمع يا توفيق، واسمع أنت يا حسين، أمن مصر القومي يبدأ عند جبال طوروس، من أيام الفراعنة وحتى أيامنا هذه، وإسرائيل عدونا الذي فرض علينا العداء، وعلينا أن نحمي مصر، فإسرائيل خطر على مصر أولاً، وخطرها على مصر أعظم من خطرها على أي بلد عربي..
÷ ملاحظة: لم يكن أي من الثلاثة معجباً بجمال عبد الناصر أو من المؤمنين بالعروبة هوية ومصيراً.
÷ ملاحظة ثانية: سمعت العديد من أهل الرأي في مصر، عبر العهود المختلفة، ينتقدون شيئاً من التمييز في تعامل «الدولة» بين المسلم والقبطي، ويعتبرون أن هذا الخلل خطير حتى لو لم يكن مقصوداً، ويلحون على ضرورة أن تتولى الدولة علاجه (في الحكومات والإدارات ومجالات التوظيف كافة) مرة وإلى الأبد.
سمعت كذلك عن محاولة تكتيل الأقباط الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية في «مدارس الأحد»، ودفعهم نحو «البروتستانتية»، واستخدامهم في رفع شعار «الدولة القبطية»، وسمعت النخبة من أقباط مصر يعتبرون أولئك من الخونة والعملاء أو المضللين في أحسن الحالات.
استمعت إلى البابا شنودة وإلى غيره من القسس والرهبان وهم ينبهون إلى خطر إسرائيل ويلقون الحُرم على من يتعامل معها بوصفها عدواً للشعب والدولة والدين، بينما مشايخ المسلمين، بمن فيهم شيخ الأزهر يفتون بشرعية الصلح مع هذا العدو..
÷ ملاحظة ثالثة: كنت أمضي غالب أوقات فراغي من عملي، خلال زياراتي القاهرة، في المؤسسات الصحافية: روز اليوسف (وضمنها صباح الخير) والأهرام ودار الهلال صحبتي هم الكتاب والمبدعون أدباً ورسماً وكاريكاتوراً ومسرحاً وسينما. ولقد عجزت عن التمييز بين المسلم والقبطي منهم، برغم حدة «غرائزي» اللبنانية.. كيف تعرف أن مضيفك الذي دعاك إلى إفطار رمضاني في بيته هو «قبطي»؟ خصوصاً عندما ترى القناديل في أيدي أطفاله الذين سيخرجون بعد قليل للمشاركة في المهرجان الرمضاني الليلي مرددين مع أترابهم «وحوي يا وحوي.. رمضان جانا»؟!
[ [ [
سمعت أقباطاً مصريين يتباهون، على الطريقة اللبنانية، بأنهم أساس مصر، فيرد عليهم أقباط آخرون بالقول: ومَن هم السبعون مليوناً الباقون؟ هل هم من الوافدين أو من الطارئين؟! كلنا، مع بعض، مصر.
ولقد عاملني الكثير من المصريين الأقباط بإشفاق، خلال دهر الحروب الأهلية اللبنانية: ماذا تفعلون ببلدكم الجميل؟ كيف تقدمون الطوائف أو حتى الدين على الوطن؟ كيف تقدمون المعتقد الديني على الهوية الوطنية والقومية، إذا شئت؟ الدين لله، أما الوطن فهو لجميع أبنائه، والدولة هي الراعي الصالح. لماذا تتصارعون؟ العيب في السلطة عندكم. السلطة الضعيفة مصدر خطر على الدولة. نحن هنا بخير، برغم بؤس أوضاعنا المعيشية لأن الدولة تنوب عن الله في الأرض. هي مرجع الناس. أين إيمانكم بوطنكم؟ أين دولتكم؟ لو أن لديكم دولة لما أصابكم ما يصيبكم؟!
[ [ [
ليست الوطنية (ومعها العروبة) في مصر خطاباً حماسياً وتظاهرة صاخبة وشعارات مدوية الرنين. إنها الإيمان بذاته، ولو غابت فصاحة التعبير. وفلسطين تسكن قلوب جميع المصريين الذين تمتلئ جدران بيوتهم بصور الشهداء الذين دفعوا حياتهم في المواجهات مع العدو الإسرائيلي على امتداد ربع قرن أو يزيد. وليس أعظم من القهر الذي يعتصر قلب المواطن المصري وهو يرى العلم الإسرائيلي يرفرف في سماء القاهرة، في مواجهة جامعتها التي خرّجت أجيال النخبة من أبناء الأمة العربية يقول لك السائق: «دي خرقة.. ما تدقش. بس لو العرب كانوا كلمة واحدة وحفظوا مصر لما كنا تورطنا مع هؤلاء الصهاينة الذين يكرههم العالم كله... بس سيدنا موسى ما كانش كده أبداً».
[ [ [
إن من ضرب في مصر إنما ضرب العرب جميعا: إنه يحاول هز إيمانهم بوحدة المصير. إنه يحاول أن يحرف إسلامهم بالتعصب وهم أكثر المسلمين ورعاً. إنه يحرّضهم على أهلهم داخل مصر. ثم إنه يصيب الوحدة الوطنية في كل بلد عربي. إنه يضرب القلب. إنه لا يستهدف النظام، وإن كان ضعف النظام في الإنجاز وفي توطيد أركان الوحدة الوطنية يسهل له مهمته. إنه يستهدف في مصر الأمة جميعاً من أدنى المشرق إلى أقصى المغرب.
إن العرب في مختلف أقطارهم ينزفون الآن دماءهم في كنيسة القديسين مار مرقس والأنبا بطرس بالاسكندرية.
صحيح أن الضربة قد استهدفت مسيحيين في كنيسة لكن ضحاياها خارج الكنيسة بالملايين. إنهم عموم العرب، بأكثريتهم الإسلامية وأشقائهم المسيحيين، وكلهم يرجع إلى الأصل ذاته... الكل ضحايا الإرهاب، وكل طرف بحجمه، لكن الخسارة عامة وفادحة.
إنها حرب على الهوية الوطنية، على الشعور بوحدة الانتماء إلى الأرض والتاريخ المشترك. إنها حرب على المستقبل. في هذا القطر تستهدف طائفة، وفي قطر آخر تستهدف الدين الثاني. وفي كل الحالات هي تستهدف وحدة الشعب في كل بلد عربي، من لبنان إلى العراق، ومن البحرين إلى اليمن، والبقية تأتي..
لكن مصر بتكوينها أقوى من الفتنة. إن وحدة شعبها راسخة لا تصدعها العمليات الإرهابية. ثم إن دولتها «أزلية» الثبات، ومسؤولية السلطة أن تحمي الدولة باعتبارها قاعدة الوحدة الوطنية وضمانتها العظمى.
إن التآمر على مصر هو ذروة التآمر على العرب في حاضرهم ومستقبلهم. وردة الفعل العربية، شعبياً ثم رسمياً، كانت عظيمة الدلالات: لقد أحس كل عربي أن نار الفتنة تتهدده في منزله.
وعلى العرب أن يحموا حاضرهم ومستقبلهم بحماية مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق