لم يكن المشهد المروِّع للمذبحة في كنيسة الإسكندرية، والذي أعلن انتهاء السنة وإنهاء حياة الضحايا، صادماً للجميع في مصر والمنطقة فحسب، بل كان أيضاً مروِّعاً للبعض إلى درجة أنهم شرعوا بإعلان تنبؤاتهم حول ما ينذر به المستقبل من نهاية الوجود المسيحي في مصر والعالم العربي. لقد بات من الجلي أن الفزع والفجيعة اللذين يشعر بهما معظم الناس قد قادا البعض إلى التسرّع بإصدار سيناريوات مأسوية عن المستقبل القريب.
ولكنّ أفضل ما يجدر بنا القيام به في هذه الظروف الأليمة هو تقديم تحليلات عميقة لما يدور، لا تأخذ في الاعتبار الوضع الحالي والسابق في مصر وحسب، بل أيضاً السياق الأوسع لما يدور في المنطقة التي ارتكب فيها هذا الفعل العنيف. أمّا صبّ الزيت على نار الفزع والطائفية، فلن يقود إلا الى المزيد من العنف دون أن يحسّن من الوضع الأمني أو أن يحقق الأمن الأهليّ المنشود.
وعليه، فسوف أستهل تحليلي بتقديم نظرة تاريخية حول الأحداث التي تلت بزوغ العصر الحديث والذي دُشّن بالتدخّل الأوروبي في شؤون الإمبراطورية العثمانية تحت ذريعة حماية الطوائف غير المسلمة، والذي مثَّل سابقة تحضيرية للاستعمار الأوروبي الواسع النطاق، الذي تلاها في الولايات العربية العثمانية. وكما هو معروف، فقد كان هذا التدخل نذير شؤم على الطوائف المسيحية، إذ أدّى إلى اجتثاثهم التامّ من العاصمة العثمانية اسطنبول، بينما شرع آخرون من أبناء الولايات السورية والعراقية بالهجرة إلى الأميركيّتين مع نهاية القرن التاسع عشر وما زالوا يفعلون حتى يومنا هذا. لقد أدّى هذا التدخّل وما تبعه من تلاعب الاستعمار الفرنسي والبريطاني بالهويات الطائفية إلى عدد من حالات العنف الطائفي ضد المسيحيين العرب (وكذلك ضد اليهود العرب، وهو ما تمّ بمساعدة التدخّل الصهيوني اللاحق) بدرجات وأشكال لم تعرفها المنطقة قبل وصول «الحامي» الأوروبي، أكان ذلك بعد وصول الحامي الفرنسي إلى دمشق (حيث قام قس فرنسي بالتحريض ضد اليهود السوريين واتهامهم باستخدام دماء أطفال المسيحيين في طقوسهم الدينية عام 1840، والمذبحة التي استهدفت مسيحيي سوريا عام 1860)، أو بعد وصول الحامي البريطاني إلى بغداد (حيث ارتكبت مجزرة بحق الآشوريين العراقيين عام 1933، أعقبتها أخرى ضد يهود العراق عام 1941).
أما الكابوس الطائفي الذي عاشه لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم ودور الفرنسيين والفاتيكان فيه، فيندرج في خانة خاصة به وحده. لم يعانِ مسيحيّو مصر من مثل هذه المجازر في العصر الحديث، وإن كانوا قد عانوا من أثر التلاعب الفرنسي (بدءاً بوصول نابليون) وبعده البريطاني بالطائفية القائمة أصلاً في البلاد آنذاك. بالطبع لا يمكننا أن نلقي بطائلة المسؤولية عن جميع ألوان التمييز الذي تقوم به أذرع الدولة المصرية المختلفة ضد المصريين المسيحيين على عاتق الاستعمار، فقيام نظام أنور السادات بتعزيز الكراهية الطائفية وتلاعبه الانتهازي بالإسلام خدمة للسياسات الإمبريالية، ودعمه لبعض المجموعات الإسلامية بحجة محاربة الخطر السوفياتي وأخطار شيوعية وقومية عربية أخرى، هو ما سهّل التهجم الطائفي على مسيحيّي مصر في عقد السبعينيات.
لقد مأسست سياسات السادات نزعة جديدة في الثقافة الشعبية المصرية، تواصل سيطرتها على معظم فئات المجتمع المدني، على المسلمين كما على المسيحيين. فبينما كان وجود الطائفية قائماً قبل حكم السادات، فإن سياساته المعادية للعرب والعروبة والحملة التي بدأها لإزالة صفة العروبة عن مصر عبر إخراج الأخيرة من المنظومة العربية بأكملها في أواخر السبعينيات وما تلاها، هو ما ساهم في تعزيز هذه النزعة الطائفية. فبينما كان معظم المصريين يعتبرون هويتهم جزءاً من هوية المنطقة، أدى إصرار السادات على محو عروبة المصريين وعلى التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة إلى التجاء أغلبية مسلمي مصر إلى الإسلام كإطار هويّاتي جديد أوسع من حدود مصر. كما شجّع هذا التحوّل الهويّاتي مسيحيي مصر على الانكفاء في هوية محلية ضيقة ومتجذرة حصرياً داخل حدود مصر. ولكن العروبة كهوية غير عرقية وغير جوهرانية والتي تعرّف العربي على أنه أي شخص يتكلم اللغة العربية كلغته الأم، كانت قد نجحت في استدخال مسيحيي مصر بكل الترحيب تحت لوائها، على الرغم من أنها لم تكن التيار السياسي السائد بين أغلبية المثقفين المسيحيين المصريين. وقد أدى زخم التنصّل من العروبة الذي دفع به السادات وصعود الإسلاموية، المدعومة في أوائل الثمانينيات أميركياً (وسعودياً) والتي دعمت الجهود الإسلاموية لتَصدّر الحرب الأميركية على أفغانستان (والتي تطوع للمشاركة فيها الكثير من الإسلاميين المصريين)، إلى تقوية الهويات الطائفية المسيحية والمسلمة، ما نحّى المصريين المسيحيين إلى محليّة لا يُحسدون عليها، وأقصاهم خارج أي مشروع هوياتي على المستوى الإقليمى. وقد عزز هذا الوضع من شعور الكثير من مسيحيّي مصر بالانعزال، ولا سيما مع سيادة الخطاب المجتمعي الطائفي الذي يستهدف المسيحيين والذي ساد إثر وصول السادات إلى السلطة. ويمارَس هذا الخطاب في شتى مناحي الحياة، بما في ذلك المؤسسات التعليمية، من المدارس الابتدائية الى الجامعات، وكذلك في المناهج وبين المعلمين والطلبة. ويجب التنويه هنا الى أن هذا التمييز المُمأسس لطالما بولغ في طرحه من قبل مغتربين شوفينيّين ومتعصّبين، يعيش معظمهم في الولايات المتحدة وتصويره على أنه «اضطهاد»، كما بولغ في إنكاره والتهوين من شأنه من قبل الدولة ومريديها. ولا تكفّ هذه المبالغات عن طرح نفسها، مدعِّمة حججها بالوقائع الراهنة للعنف الطائفي، ولا سيما الأحداث الطائفية في جنوب البلاد. أما التظاهر الأميركي والبابوي بأنهما حماة حِمى الأقليات الدينية المحلية واستعانتهما، منذ ثلاثة عقود، بجيش عرمرم من المنظمات غير الحكومية الممولة أميركياً، فقد ساهم أكثر في تأجيج هذا الوضع الطائفي دون أن يحمي مسيحيي مصر.
يقع الوضع المصري اليوم في سياق من العنف الطائفي المرعب الذي مكّنه الاجتياح والاحتلال الأميركيان للعراق، وقد جلب الأخير معه منظمة القاعدة إلى العراق (وللمفارقة، فأينما تحل أميركا داخل العالم العربي أو خارجه، فإنها تصطحب معها منظمة القاعدة، واليمن خير مثال على ذلك، حيث أدى التدخل الأميركي المستمر إلى إشعال حرب أهلية في البلاد). وبينما كان وما زال معظم ضحايا العنف الطائفي في العراق من الشيعة والسنّة (فضلاً عن استهداف الجالية الفلسطينية الصغيرة في بغداد)، فما يتصدر أخبار إعلام الولايات المتحدة وأوروبا، كما هو متوقع، هو العنف المرعب ضد العراقيين المسيحيين، وكأن الأخيرين يُستهدفون وحدهم دون سواهم من الطوائف والإثنيات. مع ذلك يجب التشديد على أن وصول الأميركيين إلى العراق هو ما أدى إلى اختزال مسيحيي العراق إلى مستويات غاية في الضآلة.
كيف لنا إذاً أن نقرأ مجزرة الإسكندرية في هذا السياق، وماذا نحتاج إلى احتواء تداعياتها؟ ما يسعى إليه هؤلاء القلة الذين يؤمنون بأن التدخل الخارجي في مصر يمكن أن يؤمن حماية للأقباط هو استخدام هذه الفاجعة، بوعي منهم أو من دون وعي، لتوسيع دور الإمبريالية الأميركية في البلاد، وكأن ما جلبته الولايات المتحدة لمصر في العقود الثلاثة الماضية (من إثراء فاحش للأثرياء وإفقار مروّع للفقراء، وتقويض مؤسسات التعليم، والقضاء على الزراعة المصرية، واستشراء الفساد، وسرقة المال العام، والتبعية الاقتصادية، وإضعاف دور مصر الإقليمي سياسياً وعسكرياً، فضلاً عن دور الولايات المتحدة في تأجيج الطائفية في البلاد) لم يكن كافياً، أو كأنما سََبق للأميركيين أن تدخلوا يوماً في أي مكان من العالم لمساعدة المضطهدين او المُمَيّز ضدّهم، اللهم إلا إذا افترضنا أن الديكتاتوريّين المُقالين أو الطبقة الرأسمالية، التي حدّت حكومة وطنية ما من قدرتها على نهب البلاد دون حساب، هم جماعات «مضطََهدة». فلو كانت الولايات المتحدة هي فعلاً حامية الحمى، لما كفاها التدخل الأميركي لنجدة المضطهدين في بلادنا (وهم ملايين لا تحصى من مختلف الأصول والأعراق)، بل لكانت وضعت حداً لسياساتها التي تتسبب باضطهادهم أصلاً. يكفينا إذاً طرح الولايات المتحدة كحامي حمى المسيحيين العرب والمصريين!
يبدو لي أن المطالبة بإصلاح مؤسسات الدولة وإنهاء السياسات التمييزية هي الجوهر، ولكن يجب على هذه المطالبات أن تشمل أيضاً إصلاح المؤسسات الدينية التي تزعم أنها تتكلم باسم مسلمي مصر ومسيحييها، ولا سيما ذلك الخطاب الطائفي الذي ينتجه كلا الفريقين. هذا لا يعني أن علينا أن نتجاهل حقيقة الاختلاف الديموغرافي بين أغلبية من مسلمي مصر وأقلية من مسيحييها أو أن نغفل تعريف الدولة لدينـ«ها» على أنه دين الأغلبية ذاته (وهو ما عزّزه السادات ومأسسه تحت الرعاية الأميركية) عندما نقوم بتحليل سلطة هذه المؤسسات الدينية، بل إنه على مستوى الخطاب الطائفي يمكن رؤيتها كمرآة لبعضها البعض. إن التصريح بضلوع الدولة بالتلاعب الطائفي هو أقل ما يمكن قوله، ولكن يجب أن لا يجعلنا هذا نغفل عن أن لهذا الخطاب الطائفي اليوم زخماً مستقلاً يجب تفكيكه من قبل قوى المجتمع المدني المناوئة له، لا في الحيز السياسي فحسب، بل في الحيز الاجتماعي والثقافي أيضاً (وهنا يجب التنويه، وهذا لن يفاجئ أحداً، بأن مجال الثراء هو المجال الوحيد الذي لا نجد فيه أثراً يذكر للتمييز ضد المصريين المسيحيين الأثرياء).
يجب أن يفكّك هذا الخطاب لا عن طريق استراتيجيات تشمل التعبير عن «إعجاب» خاص بالمسيحيين كطائفة منفصلة (كما أفضى لي أخيراً مثقف فلسطيني ماركسي من أصول مسلمة في جلسة خاصة)، أو المغالاة في ذكر هويتهم الطائفية عند التحدث عن إسهاماتـ«هم» في التاريخ العربي أو المصري (وهي قضية يتبناها الليبراليون العرب الجدد وراعيهم الأميركي)، بل علينا أن نفهم أنه عندما تدّعي أميركا وأوروبا بأنهما «ترعيان» و«تحميان» المجتمعات المسيحية المحلية وتجعلان «الإعجاب» بهم موضة والتعريف بإسهاماتـ«هم» في العالم العربي الحديث (وأحياناً قبل الحديث) على أنها إسهامات «مسيحية»، فإنها تعمد الى إقصائهم عن بلادهم التي ينتسبون إليها ويعيشون فيها والتي يريد المتعصبون والكارهون لهم أن يقصوهم عنها أصلاً، واستهدافهم بعنف رهيب مدّعين بأنهم غرباء عن أوطانهم. لقد أقامت الحركة الصهيونية دولة يهودية حصرية ونادت بإخلاء العالم من اليهود وبتجميعهم داخل مستعمرتها الاستيطانية كي يعيشوا في دولة عنصرية غير متسامحة، وتسعى هذه القوى العالمية الآن الى تحويل البلاد العربية والمسلمة بالطريقة ذاتها إلى مقاطعات على الشاكلة الإسرائيلية تضم مسلمين «غير متسامحين» لن يتسامح معهم العالم «اليهو ـــ مسيحي» نتيجة عدم تسامحهم المزعوم.
ويجب أن لا يفوتنا في هذا السياق أنه في الأسبوع السابق على هذا الهجوم الإرهابي في الإسكندرية، كشفت السلطات المصرية عن خلية تجسس إسرائيلية في البلاد. وبما أن تاريخ الموساد وعملياته الإرهابية في مصر، بما في ذلك تفجير مكاتب بريد ودور سينما ومراكز ثقافية ومحطات القطارات في الخمسينيات، وعملياته الإرهابية المتواصلة حتى الساعة في جميع أنحاء العالم العربي (وللموساد شغف خاص بتفجير السيارات تحديداً)، يجعل من التحري عن الصلات الممكنة أو المحتملة بين جواسيس الموساد ومفجري الكنيسة أمراً في غاية الأهمية. ولكن المفارقة هي أن مأساة الإسكندرية لن تعود بالنفع إلا على الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين غير المتسامحين وحلفائهم المحليين المتطرفين وغير المتسامحين أيضاً (وإن كانوا أحياناً غير واعين لتحالفهم هذا)، ألا وهم أقلية عنيفة طائفية من بين الإسلاميين. فإن لم يرفض المثقفون العرب والمصريون، مسيحيين ومسلمين، علمانيين ومتديّنين، الانضمام إلى هذا التحالف الدولي لغير المتسامحين، فسيكونون متعاونين معهم على تحقيق أهدافهم.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك
وعليه، فسوف أستهل تحليلي بتقديم نظرة تاريخية حول الأحداث التي تلت بزوغ العصر الحديث والذي دُشّن بالتدخّل الأوروبي في شؤون الإمبراطورية العثمانية تحت ذريعة حماية الطوائف غير المسلمة، والذي مثَّل سابقة تحضيرية للاستعمار الأوروبي الواسع النطاق، الذي تلاها في الولايات العربية العثمانية. وكما هو معروف، فقد كان هذا التدخل نذير شؤم على الطوائف المسيحية، إذ أدّى إلى اجتثاثهم التامّ من العاصمة العثمانية اسطنبول، بينما شرع آخرون من أبناء الولايات السورية والعراقية بالهجرة إلى الأميركيّتين مع نهاية القرن التاسع عشر وما زالوا يفعلون حتى يومنا هذا. لقد أدّى هذا التدخّل وما تبعه من تلاعب الاستعمار الفرنسي والبريطاني بالهويات الطائفية إلى عدد من حالات العنف الطائفي ضد المسيحيين العرب (وكذلك ضد اليهود العرب، وهو ما تمّ بمساعدة التدخّل الصهيوني اللاحق) بدرجات وأشكال لم تعرفها المنطقة قبل وصول «الحامي» الأوروبي، أكان ذلك بعد وصول الحامي الفرنسي إلى دمشق (حيث قام قس فرنسي بالتحريض ضد اليهود السوريين واتهامهم باستخدام دماء أطفال المسيحيين في طقوسهم الدينية عام 1840، والمذبحة التي استهدفت مسيحيي سوريا عام 1860)، أو بعد وصول الحامي البريطاني إلى بغداد (حيث ارتكبت مجزرة بحق الآشوريين العراقيين عام 1933، أعقبتها أخرى ضد يهود العراق عام 1941).
أما الكابوس الطائفي الذي عاشه لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم ودور الفرنسيين والفاتيكان فيه، فيندرج في خانة خاصة به وحده. لم يعانِ مسيحيّو مصر من مثل هذه المجازر في العصر الحديث، وإن كانوا قد عانوا من أثر التلاعب الفرنسي (بدءاً بوصول نابليون) وبعده البريطاني بالطائفية القائمة أصلاً في البلاد آنذاك. بالطبع لا يمكننا أن نلقي بطائلة المسؤولية عن جميع ألوان التمييز الذي تقوم به أذرع الدولة المصرية المختلفة ضد المصريين المسيحيين على عاتق الاستعمار، فقيام نظام أنور السادات بتعزيز الكراهية الطائفية وتلاعبه الانتهازي بالإسلام خدمة للسياسات الإمبريالية، ودعمه لبعض المجموعات الإسلامية بحجة محاربة الخطر السوفياتي وأخطار شيوعية وقومية عربية أخرى، هو ما سهّل التهجم الطائفي على مسيحيّي مصر في عقد السبعينيات.
لقد مأسست سياسات السادات نزعة جديدة في الثقافة الشعبية المصرية، تواصل سيطرتها على معظم فئات المجتمع المدني، على المسلمين كما على المسيحيين. فبينما كان وجود الطائفية قائماً قبل حكم السادات، فإن سياساته المعادية للعرب والعروبة والحملة التي بدأها لإزالة صفة العروبة عن مصر عبر إخراج الأخيرة من المنظومة العربية بأكملها في أواخر السبعينيات وما تلاها، هو ما ساهم في تعزيز هذه النزعة الطائفية. فبينما كان معظم المصريين يعتبرون هويتهم جزءاً من هوية المنطقة، أدى إصرار السادات على محو عروبة المصريين وعلى التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة إلى التجاء أغلبية مسلمي مصر إلى الإسلام كإطار هويّاتي جديد أوسع من حدود مصر. كما شجّع هذا التحوّل الهويّاتي مسيحيي مصر على الانكفاء في هوية محلية ضيقة ومتجذرة حصرياً داخل حدود مصر. ولكن العروبة كهوية غير عرقية وغير جوهرانية والتي تعرّف العربي على أنه أي شخص يتكلم اللغة العربية كلغته الأم، كانت قد نجحت في استدخال مسيحيي مصر بكل الترحيب تحت لوائها، على الرغم من أنها لم تكن التيار السياسي السائد بين أغلبية المثقفين المسيحيين المصريين. وقد أدى زخم التنصّل من العروبة الذي دفع به السادات وصعود الإسلاموية، المدعومة في أوائل الثمانينيات أميركياً (وسعودياً) والتي دعمت الجهود الإسلاموية لتَصدّر الحرب الأميركية على أفغانستان (والتي تطوع للمشاركة فيها الكثير من الإسلاميين المصريين)، إلى تقوية الهويات الطائفية المسيحية والمسلمة، ما نحّى المصريين المسيحيين إلى محليّة لا يُحسدون عليها، وأقصاهم خارج أي مشروع هوياتي على المستوى الإقليمى. وقد عزز هذا الوضع من شعور الكثير من مسيحيّي مصر بالانعزال، ولا سيما مع سيادة الخطاب المجتمعي الطائفي الذي يستهدف المسيحيين والذي ساد إثر وصول السادات إلى السلطة. ويمارَس هذا الخطاب في شتى مناحي الحياة، بما في ذلك المؤسسات التعليمية، من المدارس الابتدائية الى الجامعات، وكذلك في المناهج وبين المعلمين والطلبة. ويجب التنويه هنا الى أن هذا التمييز المُمأسس لطالما بولغ في طرحه من قبل مغتربين شوفينيّين ومتعصّبين، يعيش معظمهم في الولايات المتحدة وتصويره على أنه «اضطهاد»، كما بولغ في إنكاره والتهوين من شأنه من قبل الدولة ومريديها. ولا تكفّ هذه المبالغات عن طرح نفسها، مدعِّمة حججها بالوقائع الراهنة للعنف الطائفي، ولا سيما الأحداث الطائفية في جنوب البلاد. أما التظاهر الأميركي والبابوي بأنهما حماة حِمى الأقليات الدينية المحلية واستعانتهما، منذ ثلاثة عقود، بجيش عرمرم من المنظمات غير الحكومية الممولة أميركياً، فقد ساهم أكثر في تأجيج هذا الوضع الطائفي دون أن يحمي مسيحيي مصر.
يقع الوضع المصري اليوم في سياق من العنف الطائفي المرعب الذي مكّنه الاجتياح والاحتلال الأميركيان للعراق، وقد جلب الأخير معه منظمة القاعدة إلى العراق (وللمفارقة، فأينما تحل أميركا داخل العالم العربي أو خارجه، فإنها تصطحب معها منظمة القاعدة، واليمن خير مثال على ذلك، حيث أدى التدخل الأميركي المستمر إلى إشعال حرب أهلية في البلاد). وبينما كان وما زال معظم ضحايا العنف الطائفي في العراق من الشيعة والسنّة (فضلاً عن استهداف الجالية الفلسطينية الصغيرة في بغداد)، فما يتصدر أخبار إعلام الولايات المتحدة وأوروبا، كما هو متوقع، هو العنف المرعب ضد العراقيين المسيحيين، وكأن الأخيرين يُستهدفون وحدهم دون سواهم من الطوائف والإثنيات. مع ذلك يجب التشديد على أن وصول الأميركيين إلى العراق هو ما أدى إلى اختزال مسيحيي العراق إلى مستويات غاية في الضآلة.
كيف لنا إذاً أن نقرأ مجزرة الإسكندرية في هذا السياق، وماذا نحتاج إلى احتواء تداعياتها؟ ما يسعى إليه هؤلاء القلة الذين يؤمنون بأن التدخل الخارجي في مصر يمكن أن يؤمن حماية للأقباط هو استخدام هذه الفاجعة، بوعي منهم أو من دون وعي، لتوسيع دور الإمبريالية الأميركية في البلاد، وكأن ما جلبته الولايات المتحدة لمصر في العقود الثلاثة الماضية (من إثراء فاحش للأثرياء وإفقار مروّع للفقراء، وتقويض مؤسسات التعليم، والقضاء على الزراعة المصرية، واستشراء الفساد، وسرقة المال العام، والتبعية الاقتصادية، وإضعاف دور مصر الإقليمي سياسياً وعسكرياً، فضلاً عن دور الولايات المتحدة في تأجيج الطائفية في البلاد) لم يكن كافياً، أو كأنما سََبق للأميركيين أن تدخلوا يوماً في أي مكان من العالم لمساعدة المضطهدين او المُمَيّز ضدّهم، اللهم إلا إذا افترضنا أن الديكتاتوريّين المُقالين أو الطبقة الرأسمالية، التي حدّت حكومة وطنية ما من قدرتها على نهب البلاد دون حساب، هم جماعات «مضطََهدة». فلو كانت الولايات المتحدة هي فعلاً حامية الحمى، لما كفاها التدخل الأميركي لنجدة المضطهدين في بلادنا (وهم ملايين لا تحصى من مختلف الأصول والأعراق)، بل لكانت وضعت حداً لسياساتها التي تتسبب باضطهادهم أصلاً. يكفينا إذاً طرح الولايات المتحدة كحامي حمى المسيحيين العرب والمصريين!
يبدو لي أن المطالبة بإصلاح مؤسسات الدولة وإنهاء السياسات التمييزية هي الجوهر، ولكن يجب على هذه المطالبات أن تشمل أيضاً إصلاح المؤسسات الدينية التي تزعم أنها تتكلم باسم مسلمي مصر ومسيحييها، ولا سيما ذلك الخطاب الطائفي الذي ينتجه كلا الفريقين. هذا لا يعني أن علينا أن نتجاهل حقيقة الاختلاف الديموغرافي بين أغلبية من مسلمي مصر وأقلية من مسيحييها أو أن نغفل تعريف الدولة لدينـ«ها» على أنه دين الأغلبية ذاته (وهو ما عزّزه السادات ومأسسه تحت الرعاية الأميركية) عندما نقوم بتحليل سلطة هذه المؤسسات الدينية، بل إنه على مستوى الخطاب الطائفي يمكن رؤيتها كمرآة لبعضها البعض. إن التصريح بضلوع الدولة بالتلاعب الطائفي هو أقل ما يمكن قوله، ولكن يجب أن لا يجعلنا هذا نغفل عن أن لهذا الخطاب الطائفي اليوم زخماً مستقلاً يجب تفكيكه من قبل قوى المجتمع المدني المناوئة له، لا في الحيز السياسي فحسب، بل في الحيز الاجتماعي والثقافي أيضاً (وهنا يجب التنويه، وهذا لن يفاجئ أحداً، بأن مجال الثراء هو المجال الوحيد الذي لا نجد فيه أثراً يذكر للتمييز ضد المصريين المسيحيين الأثرياء).
يجب أن يفكّك هذا الخطاب لا عن طريق استراتيجيات تشمل التعبير عن «إعجاب» خاص بالمسيحيين كطائفة منفصلة (كما أفضى لي أخيراً مثقف فلسطيني ماركسي من أصول مسلمة في جلسة خاصة)، أو المغالاة في ذكر هويتهم الطائفية عند التحدث عن إسهاماتـ«هم» في التاريخ العربي أو المصري (وهي قضية يتبناها الليبراليون العرب الجدد وراعيهم الأميركي)، بل علينا أن نفهم أنه عندما تدّعي أميركا وأوروبا بأنهما «ترعيان» و«تحميان» المجتمعات المسيحية المحلية وتجعلان «الإعجاب» بهم موضة والتعريف بإسهاماتـ«هم» في العالم العربي الحديث (وأحياناً قبل الحديث) على أنها إسهامات «مسيحية»، فإنها تعمد الى إقصائهم عن بلادهم التي ينتسبون إليها ويعيشون فيها والتي يريد المتعصبون والكارهون لهم أن يقصوهم عنها أصلاً، واستهدافهم بعنف رهيب مدّعين بأنهم غرباء عن أوطانهم. لقد أقامت الحركة الصهيونية دولة يهودية حصرية ونادت بإخلاء العالم من اليهود وبتجميعهم داخل مستعمرتها الاستيطانية كي يعيشوا في دولة عنصرية غير متسامحة، وتسعى هذه القوى العالمية الآن الى تحويل البلاد العربية والمسلمة بالطريقة ذاتها إلى مقاطعات على الشاكلة الإسرائيلية تضم مسلمين «غير متسامحين» لن يتسامح معهم العالم «اليهو ـــ مسيحي» نتيجة عدم تسامحهم المزعوم.
ويجب أن لا يفوتنا في هذا السياق أنه في الأسبوع السابق على هذا الهجوم الإرهابي في الإسكندرية، كشفت السلطات المصرية عن خلية تجسس إسرائيلية في البلاد. وبما أن تاريخ الموساد وعملياته الإرهابية في مصر، بما في ذلك تفجير مكاتب بريد ودور سينما ومراكز ثقافية ومحطات القطارات في الخمسينيات، وعملياته الإرهابية المتواصلة حتى الساعة في جميع أنحاء العالم العربي (وللموساد شغف خاص بتفجير السيارات تحديداً)، يجعل من التحري عن الصلات الممكنة أو المحتملة بين جواسيس الموساد ومفجري الكنيسة أمراً في غاية الأهمية. ولكن المفارقة هي أن مأساة الإسكندرية لن تعود بالنفع إلا على الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين غير المتسامحين وحلفائهم المحليين المتطرفين وغير المتسامحين أيضاً (وإن كانوا أحياناً غير واعين لتحالفهم هذا)، ألا وهم أقلية عنيفة طائفية من بين الإسلاميين. فإن لم يرفض المثقفون العرب والمصريون، مسيحيين ومسلمين، علمانيين ومتديّنين، الانضمام إلى هذا التحالف الدولي لغير المتسامحين، فسيكونون متعاونين معهم على تحقيق أهدافهم.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق