الاثنين، 1 نوفمبر 2010

طليطلة، تراث التسامح العربي الإسلامي

حميد مشهداني-برشلونة

أثناء زيارتي الأخيرة الى “مدريد” لتغطية معرض “رينوار” انتهزت الفرصة لزيارة مدينة “طليطلة” التي لاتبعد عن مدريد أكثر من 50 كيلومتر جنوبا، لانني منذ سنوات كنت أريد الكتابة عن هذه المدينة التأريخية التي عرفتها لاول مرة قبل أكثر من 3 عقود. ولم اقاوم الرغبة في زيارتها ويدي على قلبي، خائفا من ان يكون هوس المقاولين في البناء قد غير منها شيئا الى القبح العماري كما حدث في العديد من المدن الاسبانية خلال العقدين الاخيرين، وحمدا لله هذا لم يحدث على الاقل من ناحية الجانب التأريخي، وباعتقادي انه الان أحسن بكثير، فالعديد من رموز المدينة المعمارية العربية القديمة صينت بشكل رائع من قبل بلدية المدينة، التي تطل على نهر “التاخو” من على هضبة في قمتها بني القصر المشهور الذي كان شاهدا على العديد من القصص التأريخية من المؤامرات والغدر منذ القرون الوسطى الى الحرب الاهلية الاسبانية في 1936 حيث حوله الجنرال ”فرانكو” رمزا لمحاربة “الشيوعية” بسبب عصيان واحد من العسكريين التابعين له فيه، وخلق أسطورة العسكري الفاشي الذي ضحى بأبنه وجنوده ضد الجمهورية الاسبانية الديموقراطية، هذا الجنرال اسمه “ماسكاردو” وفيما بعد وبتوثيق ظهر انه كان من أكثر العسكريين جبنا، ولهذا حديث أخر.
في هذه المدينة وعلى مدى قرون تعايشت بسلام الاديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والاسلامية والمسيحية، ففي العهد القوطي كانت الجالية اليهودية من أهم سكان المدينة، بسبب احترافهم مهنة الصياغة، والتعامل بالذهب والفضة، ودخول العرب وسيطرتهم على المدينة لم تضرهم بشئ، وبقوا بعيدا عن النزاعات والحروب، رغم أنهم عانوا الامرين بعد السيطرة القشتالية على المدينة فبين من كان يستخدمهم كوسيط مع المسلمين كان ايضا من يتهمهم بالتعاون مع العرب للقضاء على المسيحية، وهذا ما كان قد قاموا به سابقا، وكانوا يعيشون في ما يسمى الى يومنا هذا بحي اليهود ويقع جنوب شرق المدينة.
تعتبر “طليطلة” من المدن الوحيدة في اوربا التي فيها يحتفظ اليهود بتراث معمارب وديني، وثقافي لايضاهى، بسبب التسامح الاسلامي، والعديد منهم كانوا يشغلون وظائف مهمة في عهد الادارة الاسلامية، خصوصا في “دار الترجمة” التي أسسها العرب لترجمة كتب التأريخ، والفلسفة، والعلوم الاغريقية والرومانية، التي كانت قد اندثرت وسحقت في أوروبا في قرونها الوسطى من قبل الاساقفة المتزمتين.

طليطلة المدجنة
المدجنون هم المسلمون العرب الذين بقيوا في طليطلة بعد السيطرة المسيحية، ومعظمهم كانوا من الحرفيين والمعمارين الذين واصلوا في إغناء الثقافة والعلوم، والعمارة. السيطرة المسيحية لم تغير شيئا في حياة هؤلاء مبدئيا، ولم تكن صدمة اجتماعية كبيرة بالنسبة لهم رغم رحيل معظمهم طوعا وتسفير اخرين قسرا. فبين القرن الثاني عشر، والسادس عشر، واصل المدجنون نشاطهم في كل مجالات الثقافة والعلوم، خصوصا في “فن العمارة” التي مزجوا فيها العديد من الاساليب، كما الموحدية، و النصرية الغرناطية، والاسلوب الخليفي، و طبعا لم ينسوا العمارة الرومانية، والقوطية، والنهضوية. كل هذه الاساليب ممزوجة معا خلقت ما يسمى بالفن “المدخري” اي “المدجن” وأسباب أزدهار هذا الفن المعماري كان يعود الى الاستخدام الذكي للمواد الاولية في البناء ورخصها ايضا مثل الجص، والخشب، والطابوق، والقاشان، ورخص الأيدي العاملة. هذا كان جواب المعماريين العرب امام تعقد العمارة “الباروكية” التي كانت تزدهر في كل بلدان اوربا الاخرى.
الخلاصة، هي ان “المدجن” فن معماري خاص، ولد في “طليطلة، ويمثل عناقا بين الحضارتين العربية والاوربية، والتقاء الشرق بالغرب ، وفيه معنى كبير للتسامح، وفي “طليطلة” ما يزال طاغيا على كل فنون العمارة، ففيها ما لايقل عن 30 بناءا بين قصور وكنائس، وجوامع بنيت على هذا الاسلوب المعماري الفريد الذي أنتشر بعد ذالك في كل أرجاء اسبانيا المسيحية، ولحد الان في الطريق القديم بين برشلونة ومدريد يشاهد المسافر العديد من المساجد التي بنيت في تلك الفترة وعلى مدى القرون حولت الى كنائس مسيحية أكتفت بوضع صليب على المنارات. فبعد عودة السيطرة المسيحية على “طليطلة” القسم الاكبر من أبنية المدينة كان عربيا إسلاميا، خصوصا الجوامع، والمساجد المنتشرة في كل أحياء المدينة مما اغاظ الاساقفة الذين لم يطيقوا فقرهم في البناء الكنائسي، ولم يستطيعوا احتمال فكرة ان الطقوس المسيحية كانت تقام في مساجد أسلامية، وهذا أستعجلهم في في تحويل هذه الابنية العربية الى كنائس للعبادة. 
في باقي أوروبا كانت العمارة الرومانية والقوطية تزدهر يوما بعد يوم مما أضطر مجلس الاساقفة البدء في بناء كاتدرائية “طليطلة” العتيدة في عام 1226، وهي تعتبر من جواهر الفن المعماري القوطي في كل اوروبا، ولكن فيها الكثير من الاثر المعماري الاسلامي، فهي شيدت في نفس المكان الذي بنى فيه “عبدالرحمان الثاني” المسجد الكبير.
للمدينة تأريخ عظيم وطويل فعلى مدى قرون كانت عاصمة العديد من الغزاة والمحتلين، من الاغريق الى الرومان وبعدها برابرة شمال أوربا من القوطيين، ثم العرب الذين سكنوها بعد غزوها من قبل “طارق ابن زباد” لاأكثر من أربعة 

قرون وهي الاطول في تاريخها، وأحيانا كانت تسمى “عاصمة الدنبا” بسبب ثرائها وترفها، ولان العرب لم يطلبوا من سكانها لا جزية ولا ضرائب، تركوا لهم الحرية الكاملة في ممارسة حرفهم وتجارتهم من يهود ومسيجيين.
خلال الحروب “القرطاجية” أحنلت “روما” المدينة في عام 190 قبل الميلاد، و أتخذتها كحامية بسبب من موقعها الاستراتيجي ، وحصانة اسوارها من جهة ، ونهر “التاخو” أو “التاجة من الجانب الاخر، وعلوها ايضا كان عنصرا جعلها نموذجا للحصانة. وعلى مدى قرون تعرضت الى العديد من الغزوات من كل جانب، وأخيرا أستطاع القوطيون من شمال أوربا اخضاعها لسيطرتهم في عام 531، ونقلو عاصمتهم من “ناربون” في فرنسا، ثم الى “برشلونة” وفي عام 569 استقروا في “طليطلة” وسميت “مدينة الملوك” التي أستطاعت توحيد أسبانيا، سياسيا، ودينينا في نهاية القرن التاسع عشر.
في فترة السيطرة الاسلامية بداية القرن الثامن لم يجد القائد “طارق ابن زياد” اي مقاومة، فالمدينة فتحت اسوارها وجسورها للجيش العربي، تعبة من عقود من الحروب والغزوات ووجدت في القائد الاسلامي حلا لحقن الدماء، وهذا أستمر ما يقارب قرنا من الزمان حيث أزدهرت المدينة في كل انشطتها الثقافية، والعلمية، والتجارية. وهذا التعايش انكسر بسبب مؤامرات الاساقفة مستفيدين من الحرية الواسعة التي كانوا يتمتعون بها، وهؤلاء قامو بما يسمى يوم “الخندق” في عام 807 حيث قتلوا أكثر من 4000 فردا من وجهاء المدينة من العرب الاسبان، في خدعة مشهورة في خزيها، حيث دعوا هؤلاء الى قصر الحاكم لنوع من الاستقبال، وكل من يدخل كان يقطع رأسه ويلقى به في حفرة كبيرة كانت قد جهزت سابقا مما اضطر خليفة “قرطبة” غزوها من جديد وعادت الى حضيرة الخلافة القرطبية، باعتبارها أخر دروع الاسلام في “الانداس” ولكن بعد سقوط الخلافة في القرن الثاني عشر وظهور ملوك الطوائف، وانتشار التحالفات من جانب والعداوات من جانب أخر بين هذه الممالك، أستطاع ملك “قشتالية” الفونسو السادس أحتلال “طليطلة” وضمها الى مملكته ونقل عاصمته من “مدريد” اليها.
هذا الملك أحترم خصوصية المدينة وتركيبها الاثني والديني، مما جعلها تستحق لقب مدينة “الثقافات الثلاث” اي المسيحية والاسلامية، واليهودية ونموذجا للتعايش والتسامح، وهذا الدور يكبر بعد تأسيس “دار الترجمة” في عام 1130 والتي بفضلها أستطاعت أوروبا قرون الوسطى أنقاذ الثقافات الاكلاسيكية القديمة مثل “الالياذة” لهوميرس و”أنياذة” فرجيل التي كانت قد أختفت لقرون في اوروبا، والقرن التالى أكتسبت “طليطلة” أزدهارا ثقافيا لامثيل له في كل اوربا. وهذا كان على يد الملك “الفونسو العاشر” الذي كان يعرف ب”الحكيم” الذي دعم وشجع جهود المفكرين من العرب واليهود كي تعود المدينة الى ما كانت عليه دائما، مدينة التسامح.
انتقال البلاط الملكي الى العاصمة مدريد في منتصف القرن السادس عشر، لم يعن تدهورا للحياة الثقافية والفنية والادبية ل”طليطلة” فهي بقيت قبلة المثقفين من كل انحاء اوربا، وأكبر شاهد على ذالك هو الفنان الكلاسيكي المعروف “الكريكو” الذي اسس مدرسة فنية لها اعتبار كبير في تأريخ الفن خصوصا في تلك السنوات حتى وفاته في 1614، وأسست فيها مدارس، وجامعات في كل نواحي العلوم والادب.
الحكم الفرانكوي الفاشي لم يقم بشئ يستحق الذكر بشأن المدينة التاريخية وصيانتها عدى اعلانه في1940 انها “مجمع تأريخي ثقافي” ليس أكثر ، وكان على “طليطلة” الانتظار أكثر من 50 عاما كي تسميها منظمة “اليونسكو”مدينة التراث العالمي” في 1987. ومنذ منتصف الثمانينات صارت مقرا لعاصمة أقليم الحكم الذاتي “كاستيا-لامانشا” بلد “سيرفانتس” العظيم.

ملاحظات تأريخية
في بداية القرن الثامن 710، كانت مشاكل البلاط على اوجهها، فأطيح بالملك القوطي “فييتزا” واصبح “رودربغو” ملكا وسط فوضى واضطراب سياسي معقد وعنيف مما سهل احتلالها من قبل القائد العربي”طارق بن زياد” بعد حصار قصير في عام 712، وسميت طليطلة الاسلامية خلال 373 سنة. تقول الروايات ان “رودريغو” كان فد اغرى ابنة “دون خوليان” حاكم مدينة ”سبتة” بينما كانت هذه تتحمم في أحد الانهر، وانتقاما من “رودريغو” سهل دخول العرب اسبانيا، وهذا المسكين لم يتمتع بشهرة طيبة خلال قرون، وكان يذكر “بالخائن” في كل كتب التاريخ وهو السبب الرئيسي لبقاء العرب 8 قرون في اسبانيا، ولكن هذا غير ثابت، وليس أكثر من شائعات لتبرير اخفاق الاسبان في مقاومة الغزو العربي، الذي صار الحل الامثل لاضطرابات ومؤامرات مستمرة، وصارت “الاندلس” جنة اوربا.
يقول “الادريسي” كانت طليطة في القرن السابع هي مركز كل أسبانيا، وفي عصرها المسيحي كانت عاصمة لها، ومركزها الاداري وفيها عثر على “طاولة الملك سليمان ابن داوود"، والعديد من الكنوز التي يصعب تصنيفها. 
ويكتب المؤرخ “فرناندو شويكا” ان “المرحلة الاسلامية لم تترك لنا نصبا معمارية رائعة فحسب، وانما المدينة كلها، كتجمع فن معماري عربي اصيل، بمساكنها، وأزقتها، وزواياها، ودروبها “المتاهية” الضيقة التي تغلق ليلا بحواجز وقضبان حديدية”. هذا قليل مما قيل في طليطلة. وعمارتها واهم البنايات العربية القائمة لحد الان، هي
باب العروة القديمة
باب المردوم

مسجد النور
محراب “بيت لحم
باب القنطرة
ساحة الدواب
مسجد الحدادين
بيت الجاف حمامات البئر المر
مسجد المخلص
حمامات زيد
باب الاثني عشر اغنية
والعديد من الابنية الاخرى التي لايسعني ذكرها جمبعا، فقط أريد الوقوف على “جامع الحدادين” وتاريخ بنائه يعود الى بداية القرن الحادي عشر، وكان ذا أهمية كبيرة، خصوصا بعد فقدان المسلمين “جامع المخلص“ او المنقذ، وجامع الحدادين هذا شيده أحد النبلاء العرب واسمه “ابن حديد” الذي كلف حينها سيد العمارة العربية ”موسى ابن علي” لهندسته، وبنائه، ولايزال اسم المعمار هذا واضحا في واجهة الجامع كما كتب في القرن الحادي عشر..
الان وبعد أكثر من ثلاثين عاما وجدت مركز “مدينة التسامح” اجمل، رغم التوسع البنائي الهائل في ضواحي المدينة

 عن إيلاف
السبت 1نوفمبر 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق