الجمعة، 14 أكتوبر 2011

مرثية مينا

مرثية مينا 
الشاعر عبد المنعم رمضان
الشروق 13 أكتوبر 2011

هل يا مينا دخلوا قلبكَ واتّخذوه مقاما

هل يا مينا سحبوا من عينيكَ النورَ

وهل آلمكَ الرجلُ الواقفُ قربَ المذبحِ

والرجلان المسئولان عن المشرحةِ

وهل تتذكّرُ جسمَ القاتلِ

هل تتذكّرُ كيف وفدتَ على الشهداءِ الأقدمِ منكَ

وماذا قالوا حين رأوكَ تئنُّ

وماذا قالوا حين رأوكَ تغمغمُ بالكلماتِ الأولى مثل الطفلِ

لعلّك لا تتذكَّرُ شيئا مما قالَ الراهبُ

لا تتذكّرُ شيئا مما قالته العرّافةُ

كانت يدُكَ تحاولُ أنْ ترتفعَ

لأنك تحلمُ أن نرتفعَ جميعا معها

كان شبابُكَ منذورا لجميع الجوعى والفقراءِ

وكان ملائكةٌ يقفون على عينيكَ

ويرتجفون

ملائكةٌ يقفون على شفتيكَ

ويرتجفون

لوحشةِ ما يفعلُه الحاكمُ بالمحكومِ عليهم

أنتَ من المحكومِ عليهم

أنتَ ضحّيةُ هذا الرجلِ المائلِ فى مكتبهِ

المائلِ فى الميدانِ

الواقفِ تحتِ مظَلّة سيّدهِ

والرافعِ إصَبعه فى كلِّ وجوهِ المشدودين إليهِ

الجالسينِ فوق الكرسىِّ المشبوهِ

الراجلِ الفارغِ مثل السيفِ على كتفيهِ

الفارغِ مثل النَّسرِ

ومثل النجمةِ

لا تخجلْ يا مينا من ميتتكَ

ولا تخجلْ من خيطِ دماءٍ ينزفُ من أعضائكَ

واستسلمْ للنومِ على أعتابِ منازلِ محبوبيك

اسألْهم عمّا لا يمكنُ أنْ يحدثَ

وافتحْ فمك إلى آخرِهِ

وانظرْ فى الجهةِ العاليةِ

الجهةِ القصوى

حاولْ أنْ تتكلَّمَ

إنَّ اللّهَ جميلٌ جدّا يا مينا

والربَّ جميلٌ جدّا

والقربانَ جميلٌ

وعيون الأطفالِ ووادى الراحةِ ونشيدَ الأنشادِ

فحاولْ أن تتكلّمَ

كى تسمعك السيّدةُ العذراءُ

المستعصيةُ الناعمةُ الخدّين

وذاتُ الظلِّ الواسعِ

والمنتبذةُ ركنا

والواقفةُ هناك

وحاولْ أن تتكلّمَ

كى تقتربَ وتدنو منك السيدةُ العذراءُ

وتهمسَ فى أذنيكَ

تقودك نحو البهوِ

وتلمسَ صدرك

حينئذٍ ستطيرُ وحيدا

سوف تطيرُ

تذكَّرْ أنّ ذراعيك جناحاكَ

فرفرفْ بجناحيكَ

تجاسرْ واصعدْ نحو سماواتٍ ثامنةٍ

وكما أنَّ الطائرَ حين يطير يصيرُ صليبا

سوف تصيرُ صليبا

سوف تصيرُ الشابَ الفاتن والمفتون

وسوف تصيرُ مغنِّى الموتى والأحياءِ

فأنشدْ أغنيتك

ولا تخلَّف أبدا عن رقّتها ومخاوفِها

أنشدْ أغنيتك الملآنة بالحزنِ الخالصِ

أنشدْ أغنيتك الملآنة بالخوفِ من الحريةِ

هل يا مينا دخلوا قلبك واتخذوه مقاما

أنشدْ أغنيتَك المغسولةَ بالنورِ النازلِ من بستانِ اللّهِ

ومن بستانِ رعايا اللّهِ الجوعى الممسوسين

ولما صوتُك يصبح مثل هواءٍ أبيضَ    

لما صوتُك يصبحَ مثل الشمسِ

ستصلْ إلى أبوابِ الجنّةِ

حاولْ أنْ تنسلَّ إليها قبل فراغِك من أغنيّةِ نفسِك

وانسَ العسكرَ

وانسَ الأحذيةَ السوداءَ ذواتِ الرقبةِ والإبزيمِ

الأحذيةَ اللمّاعة

وانسَ البدلةَ واللون الزيتىَّ

ويومَ النكبةِ

وانسَ هز يمةَ يونية

وانسَ هزيمةَ يومِ التاسعِ من أكتوبر

واغسلْ رأسك ببقايا الأحلامِ

اغسلْها حتى تنتشر الأحلامُ وتنفدَ

فإذا نفدتْ

انظرْ فى عينىْ محبوبِك

واصمتْ

وضعْ الكاب على رأسِ الجنرالِ

لأن العسكرَ إن دخلوا بستانا

قتلوا الحارسَ أو صلبوه

وسجنوا البستانىَّ

وقطعوا عنق النخلةِ

فانسَ بنادقهم وبنادق محكومِيهم

وانسَ الصحراءَ المخبوءةَ تحت سقوفِ منازلهم وسقوفِ ذويهم

وانسَ عبوديتهم للنارِ الصفراءِ وللنارِ الجوفيّةِ

واذكرْ أنّ يدا واحدة سوف تدقُّ البابَ على أبويكَ وأختك

واذكرْ أنّ مدرّعة واحدة

تكفى كى ينقلبَ الحاكمُ

من رجلٍ مشبوهٍ مثل البئرِ الجافّةِ

لا نتمنّى أنْ نلقاه على الطرقاتِ

إلى رجلٍ مشبوهٍ جدّا

مثل البئرِ الجافّةِ جدّا

والمهجورةِ

نحلم أنْ نقتله لنخلْصه من آلامِ الروحِ

ونمسحَ عنه الذلّةً والمسكنةً

ونمسحَ عن شفتيهِ رذاذاً أسودَ

كنتَ تحاولُ يا مينا أنْ تحلمَ كى يغتسلَ الحاكمُ

كنتَ تحاول أن تتخلّى عن أشواقك

كى يتحمّم بمياهٍ لا تجرى مثل لعابك

تجرى مثل الطوفانِ المحمومِ

ومثل الريح الفظّةِ

كنت تحاولُ يا مينا أنْ تحلم كى يتطّهرَ

كى يصبح إنسانا لا يغترُّ بقوتهِ

ويحاربُ دمه الفاسدَ

يكسبُ حربا واحدة، وينامُ إلى ما بعد المغربِ

لكنك يا مينا قد أخفقت

ومتَّ

ومازالت أقدامُ القاتلِ

مازالت أقدامُ القاتلِ

تمشى فوق الأرضِ

فلا تيأس يا مينا، لا تتوجس وافرحْ فرحَ الأيامِ القادمةِ

القاتلُ محبوسٌ فى دمهِ الأسودِ

محبوسٌ فى القمقمِ

تسقطُ عن كتفيهِ نسورٌ ميّتةٌ

يدهسُها الناسُ ولا يدفنُها أحدٌ

تسقطُ عن كتفيهِ

نجومٌ مثل المهُلِ تموتُ ببطءٍ

تسقطُ عن كتفيهِ سيوفٌ صدئتْ

وسيوفٌ سوداءٌ ليست تصدأُ

أما أنتَ

ستأخذُك الفتياتُ إلى السيّدةِ الأمّ

فتحضنُها

وتنامُ على فخذيها

وتهدهدُها

فإذا نَشَجَتْ

تنزلُ من عينيك دموعٌ

يشربُ منها الطيّبُ والشرّيرُ

ويشربُ منها العابرُ والعطشانُ

وتشربُ منها السيّدةُ العذراءُ

وتصبحُ يا مينا مخفوراً بالأمجادِ

وتصبحُ حرّا جدّا

مثلَ الآبِ ومثلِ الابنِ ومثلَ الروحِ القدسِ

ونصبحُ نحن جميعا من عشاقك

نجلسُ فوق ضريحكِ

نعلمُ أنك سوف تعودُ إلينا وتوحّدنُا

هل حقّا يا مينا سوف تعودُ إلينا، وتوحّدنا





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق