سليمان تقي الدين
السفير اللبنانية 19 مارس
تفاوض الدول على دم الشعوب. بعد شهر من جنون الزعيم الليبي يقرّر مجلس الأمن الدولي حظر العمليات الجوية. الشعب منهك ومثخن بالجراح والنظام مثقل بالجرائم وبفقدان الشرعية. هكذا يسهل التدخل الدولي لإيجاد حل يلائم مصالح المتهافتين على ليبيا.
في البحرين المهمة أسهل بوجود وكيل إقليمي يحشد قوات عسكرية في وجه شعب لا يملك إلا الهتاف والرايات. المذبحة هنا عربية خالصة. التحرر العربي يُنحر بأيدٍ عربية، والتاريخ يسجل أن النظام الخليجي يدافع عن ثقافة القرون الوسطى. أنظمة عائلية وراثية تحتكر الثروة وتتعاون على إنشاء قوة قمع وردع ضد كل حراك في سبيل الحرية والكرامة. إذا كان لهذا الحراك بعض الملامح المذهبية فالقسوة في تدميره تحظى بدعم الثقافة المضادة السائدة ومؤسساتها المذهبية التابعة للسلطة. يسهل على الطغيان هنا اتهام «الأقلية» بارتباطها بالخارج. يقف الغرب متفرجاً ليس فقط على قمع التغيير نحو الديموقراطية والحداثة، بل على عنصرية الطرف «الأكثري» الذي يتعامل مع التمايز المذهبي (الثقافي) بالإلغاء.
فكرة المساواة بين البشر، التي هي الأساس في كل التقدم التاريخي، يشوّهها الغرب قبل أن يشوّه الديموقراطية، ويساهم في تصنيف شعوب المنطقة كجماعات ما قبل الشعوب. ينافق الغرب في تعاطيه مع المسألة الديموقراطية، وهو يفضل في كل الأحوال بقاء الاستبداد كحليف استراتيجي له لأنه ركيزة التبعية.
لا شيء يستحق أن نسميه «ثورة مضادة». عائلة حاكمة في البحرين أو ليبيا تستدعي المرتزقة للدفاع عن حكمها أو تستجلب التدخل الخارجي، هذه ظاهرة «حرب مضادة». التدخل الأجنبي هو شكل من أشكال الإدارة الاستعمارية التي تحرّك أداة القمع
العسكرية تجاه ثقافة التحرّر الجديدة التي اجتاحت مزاج شعوب المنطقة كلها.
كل ما يجري الآن في طول المنطقة وعرضها يؤكّد على أن قهر «الأقليات» أو تحكيم الأقليات الأخرى هو أحد تجليات أزمة المشروع العربي الذي اشتغل الغرب على استثماره. حين قرّر الغرب أن يخضع المنطقة مجدداً لسلطته المباشرة واستنفد إمكانات بعض الأنظمة أطلق العنان لدعم حراك الأقليات. وحين صارت أقلية هنا أو هناك عبئاً على مشروعه استدعى لها نظرية الأمن العربي وزاوج بين العروبة وبين الهوية الدينية والمذهبية.
البيئات التي تنكّرت للعروبة طويلاً ترفع رايتها اليوم تجاه هذه أو تلك من الفئات التي تتمرّد على نظام التخاذل والاستبداد. لكن ما يحصل أكبر بكثير من معركة سياسية تنجح هنا وتفشل هناك. ثورة العرب من أجل الحرية تجذرت في وجدان الشعوب. لا يملك القمع في أي مكان أن يغيّر اقتناع الشباب العربي برفض حال التخلّف. يمكن للمناورات السياسية وللضغوط الاقتصادية ولسلطة الإعلام أن تحاصر التداعيات الواسعة لكنها لا تمنعها. كسر الفلسطينيون لعبة الانقسام السياسي وعبروا إلى مطلب الوحدة فوق سلطتي غزة والضفة. لا يستطيع النظام الرسمي العربي أن يعلن وقوفه إلى جانب رؤساء تعرّوا من كل شرعية. مشروع الفتن المذهبية لا يجد أرضاً خصبة لأن الانتفاضات في الشارع أظهرت صورة شعوب لا جماعات دينية أو مذهبية أو إثنية. لا مذهبية في مصر وتونس وليبيا ولا حتى في اليمن. لا قبلية ناشطة في ليبيا برغم الاستنفار الحاد لها. أما لبنان فلكل مذهب سلطته وقوته، ولا شرعية للتحريض على الهيمنة بمنطق النظام الطائفي الجامد الذي يرسم حصص المجموعات ويحفظها. هكذا يتعرّى منطق الفتنة أمام نهضة الشعوب بكل مكوّناتها من أجل مطالب تتعلق بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان. من يحاول تغيير النظام الرسمي العربي ليس فئة أو جماعة حتى بالمفهوم السياسي الحزبي أو الفئوي. تكاد التيارات السياسية تذوب في بحر الجمهور الواسع الذي يدق أبواب التغيير. في الدولة التي تعيش أقسى أشكال احتجاز الحرية وتتحرّك جيوشها لقمع انتفاضة البحرين يخرج من صلبها أحرار يطالبون بالتغيير.
ليس أهل «القطيف» والمنطقة الشرقية من المملكة السعودية، المسماة دولة على اسم أسرتها الحاكمة، من ينتفضون وحدهم، بل أهل الرأي من نخبتها وبعض أفراد العائلة الحاكمة يعترفون أن النظام أصبح خارج التاريخ. ليس الغرب من يحرّك الثورة ولا إيران أو تركيا أو روسيا، وليست الأفكار الهدّامة المستوردة.
مصر أعطت نموذجاً باهراً لائتلاف مكوّناتها السياسية والثقافية في معركة التغيير. الإسلاميون والقوميون واليساريون والليبراليون العلمانيون تصرّفوا على أنهم مروحة واحدة تنفتح على أفق واحد هو سلطة الشعب وإرادته وحريته وكرامة بلاده وعزتها وتقدمها وحقوق مجتمعها. نقلق للدم الغزير الذي سال ويسيل بعناد الحاكم المستبد، لكننا لا نقلق على مستقبل العرب الذين توحدهم كشعوب هذه اليقظة على الحرية.
لا نستسهل مواجهة بهذا الحجم التاريخي يتربص بها أكثر من طرف في الداخل والخارج. تحوير الصراع واستدعاء التدخل الدولي والنزاعات الإقليمية وسلطة المال المدّخر والسلاح المجهّز وثقافة الظلام والتحريض والتشويه واللعب على التعارضات واستحضار التاريخ بفصوله السوداء، كلها عناصر مستنفرة اليوم لوأد هذه النهضة. لكن اللغة الجديدة التي يحكيها الشباب العربي ويقف عندها ويدفع حياته ثمناً لها، لغة نعم ولا، لغة الشروط والمطالب، لغة الحق في الاختيار والقبول والرفض على كل المستويات، لم تعد قابلة للإلغاء.
في البحرين المهمة أسهل بوجود وكيل إقليمي يحشد قوات عسكرية في وجه شعب لا يملك إلا الهتاف والرايات. المذبحة هنا عربية خالصة. التحرر العربي يُنحر بأيدٍ عربية، والتاريخ يسجل أن النظام الخليجي يدافع عن ثقافة القرون الوسطى. أنظمة عائلية وراثية تحتكر الثروة وتتعاون على إنشاء قوة قمع وردع ضد كل حراك في سبيل الحرية والكرامة. إذا كان لهذا الحراك بعض الملامح المذهبية فالقسوة في تدميره تحظى بدعم الثقافة المضادة السائدة ومؤسساتها المذهبية التابعة للسلطة. يسهل على الطغيان هنا اتهام «الأقلية» بارتباطها بالخارج. يقف الغرب متفرجاً ليس فقط على قمع التغيير نحو الديموقراطية والحداثة، بل على عنصرية الطرف «الأكثري» الذي يتعامل مع التمايز المذهبي (الثقافي) بالإلغاء.
فكرة المساواة بين البشر، التي هي الأساس في كل التقدم التاريخي، يشوّهها الغرب قبل أن يشوّه الديموقراطية، ويساهم في تصنيف شعوب المنطقة كجماعات ما قبل الشعوب. ينافق الغرب في تعاطيه مع المسألة الديموقراطية، وهو يفضل في كل الأحوال بقاء الاستبداد كحليف استراتيجي له لأنه ركيزة التبعية.
لا شيء يستحق أن نسميه «ثورة مضادة». عائلة حاكمة في البحرين أو ليبيا تستدعي المرتزقة للدفاع عن حكمها أو تستجلب التدخل الخارجي، هذه ظاهرة «حرب مضادة». التدخل الأجنبي هو شكل من أشكال الإدارة الاستعمارية التي تحرّك أداة القمع
العسكرية تجاه ثقافة التحرّر الجديدة التي اجتاحت مزاج شعوب المنطقة كلها.
كل ما يجري الآن في طول المنطقة وعرضها يؤكّد على أن قهر «الأقليات» أو تحكيم الأقليات الأخرى هو أحد تجليات أزمة المشروع العربي الذي اشتغل الغرب على استثماره. حين قرّر الغرب أن يخضع المنطقة مجدداً لسلطته المباشرة واستنفد إمكانات بعض الأنظمة أطلق العنان لدعم حراك الأقليات. وحين صارت أقلية هنا أو هناك عبئاً على مشروعه استدعى لها نظرية الأمن العربي وزاوج بين العروبة وبين الهوية الدينية والمذهبية.
البيئات التي تنكّرت للعروبة طويلاً ترفع رايتها اليوم تجاه هذه أو تلك من الفئات التي تتمرّد على نظام التخاذل والاستبداد. لكن ما يحصل أكبر بكثير من معركة سياسية تنجح هنا وتفشل هناك. ثورة العرب من أجل الحرية تجذرت في وجدان الشعوب. لا يملك القمع في أي مكان أن يغيّر اقتناع الشباب العربي برفض حال التخلّف. يمكن للمناورات السياسية وللضغوط الاقتصادية ولسلطة الإعلام أن تحاصر التداعيات الواسعة لكنها لا تمنعها. كسر الفلسطينيون لعبة الانقسام السياسي وعبروا إلى مطلب الوحدة فوق سلطتي غزة والضفة. لا يستطيع النظام الرسمي العربي أن يعلن وقوفه إلى جانب رؤساء تعرّوا من كل شرعية. مشروع الفتن المذهبية لا يجد أرضاً خصبة لأن الانتفاضات في الشارع أظهرت صورة شعوب لا جماعات دينية أو مذهبية أو إثنية. لا مذهبية في مصر وتونس وليبيا ولا حتى في اليمن. لا قبلية ناشطة في ليبيا برغم الاستنفار الحاد لها. أما لبنان فلكل مذهب سلطته وقوته، ولا شرعية للتحريض على الهيمنة بمنطق النظام الطائفي الجامد الذي يرسم حصص المجموعات ويحفظها. هكذا يتعرّى منطق الفتنة أمام نهضة الشعوب بكل مكوّناتها من أجل مطالب تتعلق بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان. من يحاول تغيير النظام الرسمي العربي ليس فئة أو جماعة حتى بالمفهوم السياسي الحزبي أو الفئوي. تكاد التيارات السياسية تذوب في بحر الجمهور الواسع الذي يدق أبواب التغيير. في الدولة التي تعيش أقسى أشكال احتجاز الحرية وتتحرّك جيوشها لقمع انتفاضة البحرين يخرج من صلبها أحرار يطالبون بالتغيير.
ليس أهل «القطيف» والمنطقة الشرقية من المملكة السعودية، المسماة دولة على اسم أسرتها الحاكمة، من ينتفضون وحدهم، بل أهل الرأي من نخبتها وبعض أفراد العائلة الحاكمة يعترفون أن النظام أصبح خارج التاريخ. ليس الغرب من يحرّك الثورة ولا إيران أو تركيا أو روسيا، وليست الأفكار الهدّامة المستوردة.
مصر أعطت نموذجاً باهراً لائتلاف مكوّناتها السياسية والثقافية في معركة التغيير. الإسلاميون والقوميون واليساريون والليبراليون العلمانيون تصرّفوا على أنهم مروحة واحدة تنفتح على أفق واحد هو سلطة الشعب وإرادته وحريته وكرامة بلاده وعزتها وتقدمها وحقوق مجتمعها. نقلق للدم الغزير الذي سال ويسيل بعناد الحاكم المستبد، لكننا لا نقلق على مستقبل العرب الذين توحدهم كشعوب هذه اليقظة على الحرية.
لا نستسهل مواجهة بهذا الحجم التاريخي يتربص بها أكثر من طرف في الداخل والخارج. تحوير الصراع واستدعاء التدخل الدولي والنزاعات الإقليمية وسلطة المال المدّخر والسلاح المجهّز وثقافة الظلام والتحريض والتشويه واللعب على التعارضات واستحضار التاريخ بفصوله السوداء، كلها عناصر مستنفرة اليوم لوأد هذه النهضة. لكن اللغة الجديدة التي يحكيها الشباب العربي ويقف عندها ويدفع حياته ثمناً لها، لغة نعم ولا، لغة الشروط والمطالب، لغة الحق في الاختيار والقبول والرفض على كل المستويات، لم تعد قابلة للإلغاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق