السبت، 2 أبريل 2011

محاولة لفلسفة ثورات 2011 العربية



طارق حجي
الحوار المتمدن - العدد: 3319 - 2011 / 3 / 28يتضمن هذا المقال الترجمة العربية للكلمة التى ألقاها كاتب هذا المقال يوم الثلاثاء 15 مارس 2011 بمجلس النواب الإيطالي بروما وبدعوة من رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الإيطالي : =====================
عرف المسلمون إزدهاراً معرفياً وفكرياً (وثقافيا) كبيرا خلال القرون الأربعة التى تلت القرن السابع الميلادي . فخلال تلك الحقبة ترجمت مئات الكتب اليونانية القديمة سيما في مجال العلوم والمنطق والفلسفة . وكنتيجة لهذا الحراك المعرفي فقد حشدت المجتمعات الناطقة بالعربية بعشرات المدارس الفكرية والقراءات المختلفة للدين الاسلامي ، وبمحاذة ذلك زخماً من الحراك العلمي في مجالات شتى من مجالات العلوم الطبيعية والرياضيات . إلا ان الحياة الفكرية كانت تشهد (على الدوام) صراعا بين تيار محافظ كان يعلي من قيمة النص ويجل فهم السلف بل يصبغ على هذا السلف قيمة كبرى (السلف الصالح !؟!) .وقد جسَّد هذا التيار الفقهاء السنيون الذين جاءوا من بعد أبي حنيفة النعمان مؤسس علم أصول الفقه السني ، وكان كل واحد من الفقهاء الكبار أشد محافظة من سلفه. فابن حنبل أشد محافظة من محمد ابن ادريس الشافعي ، والشافعي أشد محافظة من مالك . ومالك أشد محافظة من أبي حنيفة . أما المفكرون الذين أولوا عناية كبيرة للفلسفة والمنطق فقد كانوا أكثر تحرراً (عقلياً) . وكان من أعلامهم مفكرو المعتزلة وابن سينا والفارابي ثم قمة العقلانية في هذا الزمان ابن رشد الأندلسي . واذا كانت القرون الثلاثة من بداية القرن التاسع الميلادي قد شهدت أوار حرب (ضروس) بين مدرسة المحافظين ( أهل النص والنقل) وأصحاب العقول الأكثر تحرراً ( أهل المنطق والفلسفة والعقل ) ، فأن القرنين الحادي عشر والثاني عشر (الميلاديين) قد شهدا إنتصاراً شبه كلي للمحافظين . وتجسد هذا الإنتصار في ميل السلطة السياسية (ميلا شديدا) لجانب مدرسة المحافظين وما صاحب ذلك من هجوم شديد على مدرسة العقل والتي كانت بشكل من الأشكال مستمدة من روح الفلسفة اليونانية. وترجمت هذا الإنتصار الكامل (لأهل النقل على أهل العقل)عشرات الفتاوى التي كان جوهرها أن من تمنطق فقد تزندق . ولعل أهم فتاوى هذا الإتجاه العارم فتوى الشرذوري ( في القرن الثاني عشر الميلادي ) وهي الفتوى التي قامت بتحريم الإشتغال بالمنطق بل وبأن من يشتغل بالمنطق يستحوذ عليه الشيطان. في تلك الآونة بلغ إنتصار مدرسة النقل على مدرسة العقل ذروته في قيام فقهاء مسلمين بتكفير أعلام مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد ، وهو توجه شاركت فيه السلطة السياسية مشاركة عبرت عنها أمور كثيرة مثل مناصرة المعتصم العمياء للحنابلة وتمكينه لهم من خصومهم الحنابلة ، والذى وصل لحد ذبح الحنابلة للمعتزلة جهارا نهارا فى أزقة دمشق ، وواقعة إحراق مؤلفات ابن رشد في قرطبة بأمر وتحت نظر الحاكم !
ومع نهاية القرن الثاني عشر الميلادي كانت مدرسة العقل قد تلقت ضربات قاتلة مما أدى إلى دخول المجتمعات الناطقة بالعربية للقرن السادس عشر وهي بلا عقل نقدي بشكل شبه مطلق وإكتفاء علماء هذه الشعوب بمهمة واحدة هي مهمة الشرح على المتون . وهي ما يمكن أن نصفه ببداية دخول هذه المجتمعات لقرون من السبات العقلي كان من المنطقي ان تقع أثنائها عملية إستعمار الأوروبيين لهذه المجتمعات الغارقة في السبات العقلي العميق.

وفي ذات الوقت الذي كان فيه المحافظون (النقليون) يرسخون إنتصارهم على أهل العقل والفكر المتحرر والتفلسف والتمنطق ، فقد كانت شعوب أوربا تشهد عملية (جدلية) مضادة ومعاكسة جوهرها تمكن أهل العقل الحر من إنهاء هيمنة وسيطرة المحافظين على مقادير المجتمعات الأوربية. وبإنتصار مدرسة العقل الحر في أوروبا كان من الطبيعي ان يؤدي المناخ العام المتحرر لنهضة علمية في مجالات شتى تؤدي لأمور مثل إكتشاف البارود والذي أدى لإنتصار الأوروبيين على غيرهم بما في ذلك الشعوب الناطقة باللغة العربية. وهو مايسر للأوروبيين أن يستعمروا الشعوب الناطقة بالعربية.
وهكذا فانه يمكننا القول بأن الأستعمار لم يكن بداية مشاكلنا وتخلفنا وتراجعنا ( كما يقرر كثيرون في واقعنا ) ، وإنما كان الإستعمار نتيجة طبيعية للعملية الجدلية التي كانت تقع عندنا ( أي عند الشعوب الناطقة بالعربية ) وعندهم ( أي عند الأوروبيين ) . وعليه ، فأن القول بأننا كنا متخلفين لأننا كنا مستعمرين ( بفتح الميم الثانية) وهو قول مضحود. فالصواب هو أننا صرنا مستعمرين ( بفتح الميم الثانية ) لأننا كنا متخلفين ، وقد كنا متخلفيين بسب إنتصار مدرسة المحافظين على مدرسة العقل والتفلسف والتمنطق في حياتنا المعرفية والعقلية ( والثقافية بالمصطلح المعاصر).

وبعد حقبة الإستعمار جاء الإستقلال . ولما كان الإستقلال لم يتحقق نتيجة لحراك معرفي وعقلي وثقافي وإنما لحراك سياسي ووطني ، فقد أعقب الاستقلال أَيلولة الأمور في المجتمعات الناطقة بالعربية إما لنظم ملكية قرو- سطية ( تعد إمتدادا لنظام القبلية العربية ) أو لجمهوريات سيطر فيها على مقاليد الحكم ضباط ربما يندر وجود نظير لهم في ضآلة وضحالة التعليم وإنعدام التكوين الثقافي ( وفي حالات غير قليلة: إتسامهم بفساد شخصي وعائلي غير مسبوق في التاريخ الأنساني).
وبعد نصف قرن ( تقريباً ) من إستقلال الشعوب الناطقة بالعربية جاءت المفاجأة الكبرى وهي إندلاع الثورة لتلك النظم التي آلت إليها مقاليد أمور المجتمعات الناطقة بالعربية في مرحلة ما بعد الاستقلال من جهة لم تكن تحطر على بال (أي) أحد . فالثورة التي توقع كثيرون ان تجئ إما من معدمي العشوئيات أو ممن سيطرت الأصولية الأسلامية على عقولهم ، فاجأت الدنيا كلها بمجيئها على يد أبناء وبنات الطبقة الوسطى من المتعلمين الذين أتاحت لهم تكنولوجيا العصر ( وبالتحديد : وسائط تكنولوجيا المعلومات والإتصالات ) ان يعرفوا معنى المواطنة وان يدركوا مسئوليات الحكام في المجتمعات المعاصرة.
وبينما يمكن القول بأن هناك خلاص (نظري) للنظم الملكية العربية يتمثل في تحولها بملكيات دستورية ، فان الجمهوريات العربية لا يوجد لها خلاص إلا بما عبر عنها الهتاف الجماهيري الرائع "الشعب يريد إسقاط النظام" . فقيادات الجمهوريات العربية (وبسبب النوعية بالغة الرداءة لحكامها وكلهم من الجهلة غير المتعلمين ومعدومي الثقافة، ناهيك عن اتسامهم جميعاً بفساد شخصي وعائلي لا مثيل له في تاريخ الإجرام ) هي قيادات غير قابلة للإصلاح على الإطلاق ومن المحتم أن تخلع (كما خلع التونسيون بن علي وكما خلع المصريون حسني مبارك)، ومن اللازم ان تحاكم وتحاسب تلك القيادات المخربة والفاسدة لتكون عبرة للحكام القادمين . ومن غرائب الأمور في المجتمعات العربية ان من كانوا يطلق عليهم شيوخ النفط إنما كانوا أكثر تعقلاً (نسبيا) فى سائر الأمور من عساكر النفط ( ليبيا والعراق والجزائر مثلاً ) والذين فاقت جرائمهم بوجه عام ولصوصيتهم بوجه خاص ما تعجز العقول عن تخيله.
ان ما حدث في تونس ومصر ثم ما يحدث الآن في العديد من البلدان الناطقة العربية لا يمكن فهمه بشكل صحيح الا من خلال تلك النظرة التاريخية - الجدلية التي وصفتها فى هذا المقال للحالة العقلية للمجتمعات الناطقة بالعربية خلال القرون الأربعة عشر الماضية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق