الأربعاء، 17 أغسطس 2011

محمد عبده: الحاكم فى الإسلام مدنى من جميع الوجوه

محمد جاد
الشروق 5-4-2011
 أصبحت «المدنية» كلمة سيئة السمعة، وعنوانا لمؤامرة على الإسلام عند الكثير من المتدينين، بعد أن انفتح باب النقاش حول ملامح الدولة الجديدة فى مجتمع ما بعد الثورة المصرية، تلك القضية التى ناقشها الإمام محمد عبده منذ نحو قرن من الزمان بعد أن انتشرت آراء لمفكرين غربيين تذهب إلى عدم تواؤم الدين الإسلامى مع الدولة الحديثة، فكان رده فى كتاب يتلخص موضوعه فى عنوانه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية».
يعتبر الأستاذ الإمام أن قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها أصل من أصول الإسلام، حيث هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها «حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم»، «فليس من الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه»، بحسب التعبيرات التى استخدمها فى كتابه.

والخليفة عند المسلمين «حاكم مدنى من جميع الوجوه»، ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحى، فالأمة «هى صاحبة الحق فى السيطرة عليه وهى التى تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها».
ولا تتناقض المدنية التى يتحدث عنها الإمام مع كون الإسلام «دين وشرع»، وضع حدودا لحفظ الحقوق إلا أن «تلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى، فلا بد أن تكون فى واحد وهو السلطان أو الخليفة».
يعرض الإمام الصورة القاتمة لأوروبا وهى تحت سيطرة النفوذ المتنامى للكنيسة على أوجه الحياة المختلفة، ومقاومة التيار التنويرى بأوروبا لهذه الهيمنة الدينية للانتصار لفكرة المدنية، حيث يشير إلى النزاع فى سنة 1871 بين حكومة بروسيا وبابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لمطالبة الأخيرة بعزل أستاذ فى إحدى الكليات رأى رأيا لا يروق للحزب الكاثوليكى فحرمه البابا وطلب من الحكومة عزله «غير أن عزيمة بسمارك نصرت مدنية القرن التاسع عشر على سلطان الكنيسة وأبقت الأستاذ وجعلت العلم تحت السلطة المدنية».

والدولة المدنية كما يراها الإمام لا تفرق بين مواطنيها فى مجال احتلال الوظائف العامة إلا على أساس الكفاءة، مستشهدا بمقولة لـ«المستر داربر أحد المؤرخين وكبار الفلاسفة من الأمريكان»، «إن المسلمين الأولين فى زمن الخلفاء لم يقتصروا فى معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرا من الأعمال الجسام ورقوهم إلى المناصب فى الدولة».

ويعرض فى هذا الصدد العديد من أسماء غير المسلمين الذين تولوا مناصب عامة فى الدول الإسلامية القديمة، من أبرزها يوحنا بن ماسويه، الذى وضع هارون الرشيد جميع المدارس تحت مراقبته، معلقا بأنه «لم يكن ينظر الى البلد الذى عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذى ولد فيه بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة».

ويروى الأستاذ الإمام قصة طريفة عن «جيورجيس بختيشوع الجنديسابورى»، طبيب الخليفة المنصور والذى كان فيلسوفا كبيرا علت منزلته عند الخليفة، ولكنه «كانت له زوجه عجوز لا تشتهى»، فأشفق عليه المنصور وأنفذ إليه بثلاث جوار حسان، فرد الفيلسوف الجوارى «وقال إن دينى لا يسمح لى بأن أتزوج غير زوجتى مادامت حية»، فكان رد فعل المنصور أنا احترم خصوصيته الدينية و«أعلى مكانته حتى على وزرائه».

ومع الامتزاج التام بين المسلمين وغير المسلمين فى الحياة العلمية، تم صياغة العقل العربى بمشاركة أتباع الديانات المختلفة، فالإمام يشير على سبيل المثال إلى متى بن يونس المنطقى النصرانى والذى «كان متفننا فى جميع العلوم العقلية» وأخذ عنه أبونصر الفارابى.
وينشأ هذا الجو المتمدن المنفتح فى ظل مناخ من الحريات، ليكون العرب «أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين»، كما جاء فى مقولة جوستاف لبون التى نقلها الأمام فى كتابه.

وتشيع تلك الروح العلمية فى مناخ من المساواة بين الطبقات، ويستشهد محمد عبده هنا أيضا ببعض اللحظات المشرقة فى التاريخ الإسلامى، حيث «أنفق وزير واحد لأحد السلاطين وهو نظام الملك مائتى الف دينار على بناء مدرسة فى بغداد وجعل لها من الريع ليصرف فى شئونها خمسة عشر ألف دينار فى السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء فى المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغنى يكتفى بمال أبيه».

تلك هى الصورة المثالية التى أراد محمد عبده أن يرسمها للمجتمع المتمدن الذى لا يتصادم مع الدين الإسلامى، ولكن الواقع المعاش فى مصر والعالم الإسلامى، والذى قد لا يختلف كثيرا عن الوضع الحالى، يتناقض مع تلك الصورة البراقة للإسلام، حيث يتساءل: «أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء العلوم العقلية والفنون العصرية؟».

ويشير الإمام إلى الظاهرة المعروفة فى أيامنا بالإسلام الأفغانى، حيث يتساءل: «ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان والهند والعجم من شدة التمسك بالقديم والحرص على ما ورثوا عن أبائهم الأقربين وإقامة الحرب على كل من حاول أن يزحزحهم أصبعا عما كان عليه سلفهم».

ويرجع الإمام تلك الظواهر السلبية إلى ممارسات الاستبداد فى العالم الإسلامى، والأنظمة التى أتت بها، حيث تريد تلك الأنظمة تعطيل حركة الفكر وخلق حالة من الجمود باسم الدين، مشيرا إلى مرحلة تحلل الإمبراطورية الإسلامية بعد الدولة العباسية، وكيف قام الحكام ببث «أعوانهم فى أطراف المملكة الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم فى الشئون العامة وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة، فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد فى الأخبار من أحوال آخر الزمان وأنها لا حيلة فى إصلاح حال ولا مال».

اتجار الدعاة بالدين، كان من أسباب الفساد التى أشار لها أيضا الأستاذ الإمام، حيث يشير الإمام إلى أن عبارات رنانة كالإصلاح، ومجد الإسلام القديم، كانت تتردد كثيرا على لسان العديد من الدعاة إلى الدين، ولكن «الصادق من هؤلاء ليس بكثير عده، وما تجد أكثرهم إلا متاجرين بهذه الكلمات لكسب بعض دريهمات، ويظهر لك ذلك من انهم يلفظون هذه الأسماء وقلما يدرسون شيئا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه».

هذا بخلاف النظرة الموروثة بين العوام عن أن «الجهالة أم التقوى» و«كثير من أهل الأديان مسيحيين ومسلمين لايزالون يجرون على هذه القاعدة ببركة أبناء الزمن الغابر».

وينبه الإمام إلى أن جمود نظرة بعض المتدينين للثقافة المدنية الحديثة، يجعلهم يطلقون الاتهامات جذافا على المثقفين الأمر الذى ينفر المثقفين من الدين، حيث يقول: إن «المتعلمين فى مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الدينى فيها شىء من بقية، ينشأون على شىء من المعارف فى الفنون المختلفة، وتقرر لهم حقائق فى الكون السماوى أو الأرضى أو فى الاجتماع الإنسانى، ومن عرف شيئا انطلق لسانه بالخوض فيه، وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين، وهو جامد على ألفاظ سمعها، فلو سمع غيرها أنكره وظنه مخالفا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم المتعلم، ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين» وهو ما يدفع هذا المتعلم إلى أن «ينفر من دينه نفرته من الجهل».

الجمعة، 24 يونيو 2011

الإبداع والظرفية الثورية

محمد برادة 
الشروق 24-يونيو 2011
 فى غمرة الانتفاضات والاحتجاجات الشبابية الثورية، التى تعمُّ الأقطار العربية، يكون من الطبيعى أن ترتفع أصوات لتتساءل عن مدى تجاوُب الأدب والإبداع بصفة عامة، مع الأفق الجديد الذى ستنفتح أبوابه مع تحقيق التغيير باتجاه الدمقرطة وضمان حقوق المواطن فى حرية الاعتقاد والتعبير.. بعبارة أخرى، مع التطلع إلى التحرر من الاستبداد، وإرساء دعائم مجتمع جديد، تغدو الحاجة ماسة إلى تعبئة كل الجهود والطاقات لبلورة قيم الثورة والتجدّد.

لكن المسألة، بالنسبة للأدب والإبداع، هى أعمق وأكثر تعقيدا مما تبدو عليه أول الأمر. لذلك أودّ أن أتوقف عند وجهتى نظر متعارضتين فى هذا الموضوع، وتحتاجان إلى تحليل لالتقاط جوانب الإشكالية دون تسرّع أو انقياد للحماس المواكب للظرفية «الثورية».

أبدأ بوجهة نظر الذين ينادون بضرورة مواكبة الأدب للتحولات الجارية منذ أشهر فى معظم البلدان العربية، والتى تعتمد على السياق الخارجى لشروط الإبداع أكثر من اهتمامها بالخصوصية «الداخلية» الملتصقة بسيرورة الإبداع. يذهب المؤيدون لضرورة تغير الأدب باتجاه التحولات المجتمعية المقبلة، إلى أن ما نحن مقبلون عليه سيوفر شروطا مختلفة عن تلك التى طالما عانى منها المبدعون فى ظل الأنظمة الاستبدادية وسطوة البترو-دولار، لأن الفكر الثورى الجديد سيضع حدا للخوف، وسيمحو التابوهات والمحرمات، وسيدشن علاقة أخرى بين المنتج والمتلقى، وستتلاشى الرقابة ومصادرة الكتب والأعمال الفنية.. فى مثل هذه الحجج أشتمُّ رائحة الربط الآلى بين السياسة والأدب، على نحو ما عرفناه من قبل فى تاريخ ثقافات أخرى وفى ثقافتنا. وهو ربط يرمى ضمنيا إلى أن يكون الأدب والفن تابعين للسياسة ولأهداف إيديولوجية. وإذا سلمنا جدلا أن التغييرات الافتراضية، الإيجابية، التى ستحققها الانتفاضات العربية ستوفر شروطا سياقية أفضل، فهل هى كافية لازدهار الإبداع وارتقائه إلى معانقة اللحظة التاريخية المميزة؟

على عكس هذه الدعوة وفى اتجاه معاكس لها، هناك التحليل الذى أسانده وأدافع عنه، وهو الذى ينطلق من طبيعة الأدب والإبداع المختلفة عن بقية أشكال وطرائق التعبير الأخرى، والتى تجعل «زمنية» الإبداع مغايرة لمقياس الزمن الكرونولوجى والتاريخى. صحيح أن الأدب والفن يتفاعلان مع المحيط وأسئلة المجتمع ولا يستطيعان أن يوجدا فى استقلال تامّ عن السياق التاريخى، ولكن خصوصية الأداة ( الكلمة، الخطوط والألوان، الإيقاع والصوت، الصورة، والإزميل...) تجعل التواصل مع العمل الفنى محكوما بعناصر الجمال والمتعة، التى يتوسل بها الإبداع والعلاقة الخاصة التى تتولد بين المتلقى والمبدع. ومن ثمّ فإنها لا تكون مجرد علاقة «توصيل» أو تبليغ لخطاب مسنن واضح المعالم، وإنما هى عملية اختيارٍ حرّ من طرف المتلقى وأيضا من المبدع الذى لا يخضع لطلب مسبق، أو لموضوع لا يتفاعل معه. وعنصر الحرية الأساس فى الإبداع، هو الذى يفسر لنا لماذا أصبح الأدب العميق، النابع من التجربة، مهمشا فى عصر السرعة وطغيان نصوص التسلية و«الكيتش» المحاكى للواقع بطريقة ضحلة.

من هنا، تبلوَر مفهوم الأدب فى وصفه تجربة إنسانية وجمالية وشكلا ينطوى على المتعة. بعبارة ثانية، لكيْ يبرر الأدب (الفن) وجوده، عليه أن ينتج خطابا مختلفا عن بقية الخطابات التى يتداولها المجتمع، ويتوسل بها لصوغ الأسئلة واستيعاب التحولات. والأداة الفنية تسعف على التقاط واقتناص «الحقائق» والوقائع من زوايا مغايرة لتلك المتصلة بالتلقى المباشر، والسيرورة الظرفية. وهذا هو ما يتيح القول بأن «زمنية» الإبداع لا تتطابق بالضرورة مع زمن الأحداث الاجتماعية والسياسية، لأنها تضع مسافة مزدوجة بينها وبين الحدث التاريخى: مسافة زمنية تسمح بتمثل أبعاد التجربة واستيعابها، ومسافة جمالية توفر للعمل الأدبى ما يعلو به على السياق الظرفى، ويكسبُه قيمة أرحب وأعمق.

هذا الاختلاف بين زمنية الإبداع وزمن الثورة أو المنعطفات التاريخية، يصلح مقياسا للتمييز بين الإبداع المستجيب لشروط التمثل والتفاعل، والإبداع الخاضع للسرعة والمحاكاة السطحية التى لا تضيف شيئا إلى الحدث. ويمكن أن نضرب مثليْن يوضحان هذا الفرق بين الزّمنيتين: توَافقَ انتهاء نجيب محفوظ من كتابة الثلاثية مع قيام ثورة 1952 فى مصر، فاضطر إلى التوقف عن الكتابة عدة سنوات لأنه كان فى حاجة إلى استيعاب الحدث الكبير والتفاعل معه، لكنه حين استأنف الكتابة فى مطلع الستينيات من القرن الماضى لم تأتِ نصوصه مناصرة لـ«الثورة»، بل أقرب ما تكون إلى النقد والحفر فى زمنية ذات مدى بعيد (اللص والكلاب، أولاد حارتنا، ثرثرة فوق النيل).

والمثل الثانى متصل بما تعيشه المجتمعات العربية اليوم من انتفاض وثورة، حيث نجد كاتبا هو الطاهر بنجلون سارَع إلى إصدار رواية «الشرارة»، التى استوحى موضوعها من هبة تونس وبطولة البوعزيزى، الذى أحرق نفسه احتجاجا على الظلم والتسلط فكان الشرارة، التى أوقدت شعلة الثورة الشعبية.

لكننا حين نقرأ الرواية المتزامنة مع أحداث الواقع الذى تحيل عليه، لا نجد أن النص يضيف شيئا أو يضىء زوايا تعمق الإحساس والتأمل، وإنما هى عبارة عن رواية فضفاضة ترسم مسار شاب تونسى ربما يشبه البوعزيزى أو غيره فى مجتمعات عربية أخرى، ولكن من دون تجسيد خصوصية التجربة التونسية المتشابكة الحلقات، التى جعلت من البطل سلسلة واصلة بين عدة حلقات.. وهذا الحرص على إصدار رواية «متزامنة» مع سخونة الأحداث قد يكون الدافع إليه انتهاز المناسبة لتحقيق مبيعات مربحة لدى القراء الفرانكفونيين المتطلعين إلى فهم ما يحرك جماهير الشعوب العربية ضد طغاتها.

لذلك لا يكفى، فى نص روائى، أن يردد الكاتب ما نشرته الصحف وتلفظ به المعلقون عن الاستبداد والظلم واحتقار كرامة المواطن.. هل نقول عن مثل هذه الرواية إنها تواكب الثورة وترسم ملامح الأفق الجديد؟ أنا شخصيا لا أرى ذلك، وأميل إلى البحث عن ثورية» الأدب ضمن الإطار الخصوصى، الذى يجعل المبدع يبلور رؤيته الشخصية إلى العالم والمجتمع استنادا إلى «الحقيقة» الرافضة للماضوية والشعاراتية، والحريصة على أن يتشبث الإبداع بالجمالية والتحرر من ضغط السوق، والتهافت على الربحية على حساب متطلبات الإبداع.