مريد البرغوثى في رسالة شعرية للشهداء: لقد خُلقتم للبهجة
المصري اليوم 23-1-2012
هذه مقاطع أتبادل فيها النظر والشهداء، كلها مأخوذة من مشاهد متباعدة فى ديوان «منتصف الليل»، فما بين يديكم الآن ليس قصيدة عن الشهداء، بل صورهم فى قلب شاهدٍ على أنهم أصلاً «خُلقوا للبهجة»، لولا هذا الموت الطارئ وطويل العمر.
إذا كان الأحياءُ يشيخونْ،
فإنّ الشهداءَ يزدادونَ شَباباً
(1)
لماذا كلّما شاهدْتُ قَتيلاً مُسَجّى
ظَنَنْتُهُ شَخْصاً يُفَكِّرْ؟
■■■
ها أنتَ مَقتولٌ على الأَرضْ
والأرضُ بِصِحَّةٍ جَيِّدَة.
■■■
قَلبُكَ مُتَوَقِّفٌ تَماماً
والتُّرابُ حَوْلَكَ ينبضْ.
■■■
دَوْرَتُكَ الدَّمَوِيَّةُ
تُكْمِلُ شُغْلَها خارجَ جِسمِكْ.
■■■
كُنْتُما اثنَيْن: أنت ومَطاِلبكْ،
خَرَجْتُما معاً، قاتَلْتُما معاً...
وأنتَ/ وَحْدَكَ/ مُتّ.
(2)
للجِسْمِ رَقْصَتُه، ولو بين الحِبالْ
للرّوحِ شَهوتُها، ولو فَوْقَ الصَّليبْ
الحرب تُوغِلُ فى فُكاهَتِها
إذا قَصَفوا الفَراشةَ بالقَذيفةِ
ثم تُمْعِنُ فى التَّوَغُّلِ فى فُكاهَتِها
إذا ما لاحظوا أنّ الفَراشَةَ لم تَمُتْ
وغَدَتْ، بِكامِلِ ضَعْفِها، أحلى
وأعلى مِن يَقينِ العَسْكَرِىِّ
ومِن عُلوم الحَرْبِ/
نِصْفُ النَّصْرِ أنّ فَراشَةً عَزْلاءَ،
إلا مِن جُموحِ جَناحِها وجَمالِها،
دَخَلَتْ مع الموت المُؤكَّدِ فى سِجالْ.
ستموتُ/
تعرف أنها ستموتُ/ مِن أوْصاف قاتِلِها، ومِن أوْصافِها،
لكنّها/ ستُطِلُّ من شُبّاكِ يأسٍ قادِمٍ وتَرِفُّ فى غُرَفِ الخَيالْ:
للرّوح شهوتُها، ولو فوقَ الصَّليبْ
للجِسْمِ رَقْصَتُه،ُ ولو بين الحِبالْ.
(3)
أنتَ الذى وَلَدَتْكَ أمُّكَ
فى مَنْزِلِ الشَّرْقْ
حيث ابتدأ كلُّ شىء
سترى انحناءَ الثيابِ المُطَرَّزَةِ على شَواهِدِ النِّهاياتْ،
والذين تُحِبُّهُمْ، ستراهم مُتَقابِلينَ مع مَوْتِهِمْ،
كَتَقابُلِ الأَزْرارِ والعُرى
على صَدْرِ القَميصْ.
(4)
ما الذى بوسْعِكَ أن تَفْعَلَه؟
إجماعٌ تُحاوِلُ أن تَظَلَّ خارجَه
أَغْلَبِيّاتٌ تَظَلُ فيها قَليلاً
بجَيْشٍ مِن جنود المَجاز
تُغالِبُ عَضَلاتِ العالَمْ؟
بِبَلاغَةِ الخَزَفْ
تَرُدُّ على مُرافَعَةِ الحَديدْ؟
(5)
الدُّخانُ يُغْلقُ المَشْهَدْ
الأجسادُ تَلَوَّنَتْ بالأحمَرِ الساخِنْ
زُجاجُ سيارة الإسعاف، تَلَطَّخَ فجأة
صَديقُكَ لن يَصِلَ أبداً إلى أىِّ مَكان
الأهل البَعيدون،
الذين لم يَسْمَعوا بالخَبَرِ بَعْدْ،
لن يطْمَئِنّوا.
منذ هذه اللحظة، على الأغلَبْ،
لن يَطْمَئِنّوا!
(6)
موتهُ أعْجَزَهُ عن المَشْىْ
ولو استطاع
لنزل الآن عن الأكتاف
وسارَ إلى قبرهِ على قَدَمَيْه
دونَ حاجَةٍ إلى أَحَدْ.
(7)
البَشَرِيَّةُ تَقَدَّمَتْ أيها العجوز
عاد عصرُ المعجزات:
الآن صار ممكِناً مَحْوُ كل البراهين.
الآن صار ممكِناً إثباتُ أنّ ما وَقَع
لم يَقَعْ.
الآن صار ممكناً إثباتُ أن الموت
هِواىَةُ القتلى.
الآنَ صارَ مُمْكِناً أن يبدأ المَوْلودُ عُمْرَهُ
مِن جِهَةِ الكُهولَةْ!
(8)
لا بُدَّ أنّ هناك طريقةً أُخرى. لا بُدَّ أنّ هناك قبطاناً آخر.
لا بُدَّ أنّ هناك شراعاً أكثر متانة.
لا بُدَّ أنّ هناك سُفُناً لا تَغْرَقُ مَرَّتَيْن.
لا بُدَّ أن يحيا المَرْءُ أوَّلاً ويموتَ ثانياً.
لا بُدَّ أن تكون هناك امرأةٌ أعْشَقُها، أموتُ فى سَبيلِها،
دون أن يغارَ الوَطَنْ.
(9)
ها هى باليأس ذاتِهِ، بالرجاء ذاتِهِ، حياةٌ حافِيةٌ
خَرَجَتْ تلومُ المَوْتْ.
حياةٌ خَرَجَتْ كاملةً
لِتَنْقُصَ غَداً
وغَداً، وغَداً، وغَداً.
(10)
وَحْدَكَ الآنَ ولا وَجْهَ سِواكْ.
أنتَ مَن عَلَّقْتَ نَجْماً ضاحِكَ الضوءِ هُنا
ونجوماً عابِساتٍ كَجُنودِ المَخْفَرِ العالى هُناكْ
أنتَ كأسى وانْتِشائى، فلماذا
تَمْنَعُ الخَمْرَةَ عن روحى؟
وسُكرى فيكَ، لا عَنْكَ، ومَطلوبى رِضاكْ.
أنتَ إن لم تَسْتَمِعْ لى، إمَّحى فى الأرض ظِلّى،
فلمن سوف أُصَلّي، ولِمَنْ يلجأُ مِثْلى
حين تُقْصينى يَداكْ؟
لم أعد أملك اسما، كى أُنادَى أو أُسَمّى
مُلِئَتْ كأسىَ سُمّا، صِرتُ فى قبرىَ رَسْما،
وتَعَوَّدْتُ الهَلاكْ
منذ عُمْرَيْنِ أنا والضَّجَرُ، عبثاً فى قبرنا ننْتَظِرُ
ثم لا نحيا ولا نَنْتَشِرُ، سامِحِ المَوْتى إذا ما كَفَروا
أو تَجَلَّ الآنَ عَدْلاً، لِنَراكْ.
(11)
المَرْءُ يُشْبِهُ مَن يُشَيِّعُهُ تَماماً
قُبَّعاتُ الرّيشِ تَمشى فى جَنازتِها رِياشٌ مِثْلُها جِداَّ
ولا يَبْكى الحُفاةَ سوى الحُفاةِ
وأنتَ تُشْبِهُنا،
وفى أجسامِنا جوعٌ لغير النَّصْرِ أيضاً
أنت تُشْبِهُنا - رغيفاً نائياً عن نارهِ.
لم يُعْطِكَ الإغريقُ آلِهَةً تَخُصُّكَ بالرعايةِ
كلما آنَسْتَ يأْساً كاملاً
لم يُعْطِكَ التاريخُ حتى زَوْجَ أحْذِىَةٍ لهذا الوَعْرِ.
حاوِلْ مَرَّةً أُخرى، انتظِرْ!
حتى تُرى القمصانُ أَنْظَفَ أو أَجَدَّ
وريْثَما نَسْتَبْدِلُ الأزياءَ بالأَسمالِ
والخُبْزَ الطرىّ بِهذهِ الكِسَرِ التى
سَتَشِحُّ أكثرَ كلما أخذوكَ مِنّا
أم تُراكَ فَقَدْتَ عُمْرَكَ كُلَّهُ مِن أجل ذلكَ كُلِّهِ؟
ولكى تَدُقَّ على غُيومِ الحُلمِ سارِىَةَ العَلَمْ؟
سِرْنا وراءَكَ،
كان شَكْلُ الغَيْمِ مثلَ ثِيابِنا،
رُقَعًاً بها فَوْضى، بها جوعٌ إلى الألوانِ
تَحْمِلُنا صنادِلُ فى ثُلوجِ اللهِ، والسَّهَرُ الفقيرُ سماؤنا
اغضب ولكن لا تمت!
فأمامَنا شغلٌ كثيرٌ، لو عَلِمْتَ:
أمامَنا تنظيفُ جِسْمِ رصيفِنا
وأمامَنا ترتيبُ كلِّ رُفوفِنا
وأمامَنا تغييرُ شكلِ عريفِنا
وأمامَنا تعريفُ دُنيانا بنا مِن بَعد أن جارَتْ على تَعريفِنا.
يا أيها المُغْبرُّ أَقداماً وروحاً، مثلَنا:
ما رِعْشَةُ الأملِ الذى كانت يداكَ تَجُرُّهُ كالزَّوْرَقِ المدفون تحت الرملِ،
إن كنا سَنَسْتَثْنيكَ مِن مينائِنا، وىَعِزُّ أن
نَسْتَرْجِعَكْ؟
ما نوبة الصَّحَيانِ فى أبراجِ هذا السورِ
إن لم نستطع أن نَسْمَعَ الرأىَ المُغَطّى بالزهورِ
ونَسْمَعَكْ؟
يا أيها المنسىُّ فى قاع الأسى
ما خَفْقَةُ العَلَمِ الذى حَلُمَتْ يداكَ بِرَفْعِهِ
إن لم يَكُنْ فى وُسْعِهِ أن
ىَرْفَعَكْ؟
نشتاق للموتى كما نشتاق للأَحْياءِ. يَكْذِبُ من يُكَذِّبُ قلبَهُ:
لا شىءَ يَعْدِلُ ساعَةً أُخرى مَعَكْ.
(12)
لأنك، فى الأَصْلْ،
(ولولا مِئةُ وَجَعٍ تُلِحُّ على زُجاجِكَ كشحّاذى إشارةِ المُرورْ)
أنتَ خُلِقْتَ لِلْبَهْجَة.
المُجتمِعون فى المُنتدى،
المَأْخوذونَ بِمَلامِحِكَ الحاسِمَة، وصوتِكَ الصّخرِىّ
لا يُدْرِكونَ أنّ حديقةً ينبضُ فيها الرَّذاذ، كَفيلةٌ بِقَتْلِكْ.
طِفْلٌ غَريبٌ يَضْحَكُ لكَ فى القِطارْ
يُسَمِّرُكَ شجاعاً وجباناً فى قَلْعَةِ جَسَدِكْ، وراغِباً فى الرَّقْصِ،
كالمَشلولْ!
تَمْتَنُّ للنّسمةِ فى القَيْظْ، كأنها فَوْزُكَ باليانَصيبْ
لائِقٌ لكَ الصَّمْتُ والصَّخَبْ. لائقٌ لك الرسوخ،
ولائقٌ لك التحليقُ بين نَوْرَسَيْنْ
كأنَّكَ جِسْرٌ بين ضِفَّتَىِّ الحُزْنِ والمَسَرَّة -لا تَتَحَدَّثُ عن أَحْمالِكْ
ولولا مِئةُ وَجَعٍ تُلِحُّ عليك
أنتَ .. خُلِقْتَ .. للْبَهْجَة.
(13)
فى أَوْجِ ذلك،
ها هو ذَيْلُ ثَوْبِها الأَسْوَدْ
يكاد يَمسُّ وَجْهَكَ النّائِمْ:
حِدادُ أُمّكَ الطويلْ،
صامِتاً، مُسْتَوْحِشاً،
ىَذْرَعُ مَمَرّاتِ البَيْتْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق