حوار: أسامة الرحيمي
الأهرام 13-6-2011
بات من رموز الاتساق, الموجع للذمم الواسعة! فلم يمنعه شئ من منازلة دولة مبارك الفاسدة بمفرده, وهدم حظيرة المثقفين بثقة, دفاعا عن قيم نسيها الآخرون وسط تكالبهم علي المنافع!فلا يشغله سوي أدبه, الذي يتوفر عليه بلا كلل من دون اعتبار لمكابدات التوثيق التي يلاقيها عند الكتابة
ومواقفه المتوافقة مع إبداعه, وقناعاته الفكرية الثابتة, مع طيبته الصافية, ولطف اشتهر به, يمنح من يعرفه فرصة لتأمل المبدأية باعتبارها قيمة يجب إنقاذها قبل أن تذورها الرياح, وتنسرب من بين أصابع الناس إلي البدد
في روايته الجديدة الجليد يعود إلي الطرق علي حديد القضايا البارد مستهولا مفارقة التطبيق للنظرية مستنكرا فجاجة التناقض الإنساني الذي يتنازع الناس وسط بحثهم عن السعادة والتحقق
وشأن كل رواياته اثارت غبارا نقديا في الاجواء واختلافا في التلقي والتفسير, لكن الجلوس اليه, والنقاش معه, يؤكدان لي عادة ان تباين وجهات النظر ثراء للفن, وان الاتساق الانساني مرتقي صعب لايعتليه غير الصادقين وهدف عصي لايدركه إلا ندرة مثل صنع الله ابراهيم!!
> ألا تبدو روايتك الأخيرة الجليد خارج زمانها الصحيح؟ ألم يكن وقتها مثلا عقب تفكك الكتلة الاشتراكية, فهي الآن بمثابة تأمل متأخر لأسباب فشل التجربة.
أوافق علي كلامك هذا, والحقيقة أن سبب كتابة هذه الرواية انني في العام الماضي شعرت بإحباط شديد, ووجدت بالمصادفة في أوراقي بعض ملاحظات عن الفترة التي قضيتها في موسكو اوائل السبعينيات وادركت انها تصلح رواية, وان تجربة الحياة اليومية وقتها هناك جديرة بالقراءة مرة اخري فتلك المشاكل التي رصدتها كانت ارهاصات الانهيار الذي حدث لاحقا.
> شعرت أن الجليد المقصود داخل نفوس البشر, الذين جمد النظام مشاعرهم وأحلامهم, واطفأ الحياة في أنظارهم, وليس الجليد الخارجي سوي انعكاس للهوان الانساني؟
هذا صحيح, فتلك الفترة اشتهرت في تاريخ الاشتراكية والاتحاد السوفييتي بفترة الجمود. والجليد له دلالات عديدة, فهو يكون طبقة بيضاء جميلة وناصعة لكنه يتراكم فوق النفايات, وعندما يذوب تنكشف النفايات مرة اخري, اضافة لاحساس الاغتراب الذي يحسه من يبتعدون عن بلادهم لفترات طويلة, الذي يشبه الجليد بشكل ما.
> قياسا علي أعمالك السابقة هل تعتبر الجليد إضافة جديدة, أم أنها مجرد جري في المحل من دون تقدم للأمام؟
لا اعرف كيف اجيب عن هذا السؤال, هذا يقوله النقاد, لكني في الحقيقة حاولت ان ارجع لاسلوب اكثر بساطة مما استخدمته في اعمالي الاخيرة, يعتمد علي الحركة.
> المدة الطويلة التي تفصلنا عن عام27 و37, لابد اسقطت كثيرا من التفاصيل ما يعني أن المخيلة لم تعتمد علي ملاحظاتك فقط؟
طبعا.. تدخلت وغيرت وبذلت جهدا كبيرا, واشتغلت علي التفاصيل كثيرا.
> من خلال الرواية بدت التجربة الاشتراكية صاخبة, وشعاراتها جوفاء, خالية من الحرية والعدالة الاجتماعية, لذا كان سقوطها سهلا, فهل تظن للاشتراكية مستقبلا جديدا؟
بشكل عام هذا صحيح, التجربة كانت هكذا, فأمور مثل التنظيم الاجتماعي, والحزب الواحد, وطبيعة السلطة, خلقت ركودا ومشاكل معقدة, والاقتصاد لم يكن يتطور بدرجة كافية, وكل هذه العوامل ساهمت في انهيار الاتحاد السوفييتي, لكن كانت هناك اشياء ايجابية كتيرة مثل العمل المضمون وعدم وجود بطالة, وان كانت هناك بطالة مقنعة, لكني لم ار شحاذا في الشارع, والرعاية المطلقة للاطفال, ومدارس المتفوقين, والنظام التعليمي كان متفوقا جدا, ونظام النقل والمواصلات كان منتظما, والنظام الصحي كان اساسه سليما رغم الصعوبات, لكن كانت هناك حاجات انسانية طبيعية كرغبة الناس في امتلاك سيارة مثلا, لكن ظلت لديهم افضلية لاشياء علي حساب اشياء, وايضا السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي كانت ممتازة ومسئولة عن التوازن في العالم ومواجهة مستمرة للامبريالية, ومساعدة الدول النامية, اما عن مستقبل الاشتراكية فهناك تيارات اشتراكية حول العالم, تطالب بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية, وتعدد الاحزاب, وستستفيد من التجارب السابقة, سلبا وايجابا, لان العالم ادرك وحشية النظام الرأسمالي, وعجزه عن تحقيق السعادة, فلم يفعل سوي تعظيم الرغبة في الشراء لدي الشعوب الفقيرة لتراكم الشركات العالمية المليارات, وتختفي الصناعات الوطنية لحساب تلك الشركات.
> السياسة واضحة في كل اعمالك منذ تلك الرائحة الي الجليد ألا تحن لكتابة عمل بلا سياسة؟
هل تقدر علي العيش من غير سياسة, اهتمام الناس العادي بالشأن العام سياسة وانا لا اتصور اي عمل ادبي خاليا من السياسة او الجنس, فاذا كتبت عن اي انسان, اتناول وضعه الطبقي, وافكاره وانتماءاته وغير ذلك وكلها متداخلة في السياسة.
> رأي البعض ان الجليد رواية تفاصيل لا احداث, لكني توقفت أمام قضية مهمة فيها, هي التناقض بين النظرية الاشتراكية والتطبيق, وهو ما أدي لفشل التجربة, وكذا استوقفني التناقض داخل الشخص الواحد؟
هذا صحيح تماما.. وإن كانت احداث الرواية لاتشير الي ذلك التناقض بشكل صريح, لكن كل التفاصيل تؤكده, فالعلاقات بين الناس والسلطة في ظل ذلك النظام لم تكن صحيحة, ولا بين بعضهم البعض, ولا داخل الشخص الواحد, فرغم اهمية النظرية, حدث خلل في تطبيقها علي الارض.
> الجنس في الرواية بدأ محاولات مستميتة لاستعادة التوازن الانساني والتحقق والارتباط بنبض الحياة, لكنه لم يحقق ذلك في أية علاقة, فكلها تقريبا محطمة وغير مكتملة, لماذا بتقديرك؟
بشكل عام اعتقد ان هذا ينطبق علي الوضع الانساني كله, في اي مكان او زمان عوامل كثيرة تمنع التحقق في الجنس, ووعي الانسان بجسمه, لذلك ينتشر البورنو في المجتمعات المشوهة, تجسيدا لعجز الانسان عن بلوغ سويته, وفي بلدنا السعداء في حياتهم الجنسية قليلون جدا, وبالنسبة لاي كاتب لابد ان يعبر بصدق عن هذا العالم, وعندنا محاولات إيروتيكية بسيطة, مثل نجيب محفوظ في روايته السراب, وتوفيق الحكيم في المفكرة الحمراء تقريبا, لكن إحسان عبد القدوس في أدبه كان حين يصل الي المشهد الجنسي يضع نقطا, بالرغم من ان التعبير البليغ عن الحالات الانسانية يتحدد في تلك اللحظات.
> نجمة أغسطس عن السد العالي, وبيروت بيروت عن الحرب الأهلية اللبنانية, ووردة عن حرب ظفار في عمان, وأمريكانلي عن امريكا, والجليد عن موسكو, وكلها اعمال تحتاج لجهود توثيقية شاقة, أليس هذا مرهقا جدا؟
طبعا شاقة جدا.. انا بشتغل في رواية جديدة تعباني قوي.. المجهود التوثيقي رهيب.. خلاص تعبت.
> كيف يمكن اختزال مدينة معقدة بضخامة موسكو, حاضرة دولة عظمي الي هذا الحيز الضيق, وهذه الانكسارات الصغيرة, ألم يكن ممكنا توسيع المشهد بشكل ما؟
ليست هناك رواية يمكنها ان تحيط احاطة كاملة بكل شئ, وانا كنت مهتما بتقديم العالم الجنسي لشخصيات الرواية لاظهر تلك التناقضات التي تحدثنا عنها.
> الحلم الاشتراكي تشظي في الرواية واستحال الي مجموعة نزوات ومتاعب ومطالب صغيرة, مثل العثور علي الطماطم او اللحم, هل يعقل ان تتدني الاحلام الي هذا الحد؟
هذا كلام رومانسي, لكن الامور فعلا كانت تصل الي حد الفرح بوجود طماطم في المحلات العامة, نتيجة لمشكلة التطبيق والتخطيط الخاطئ, فتصميم الحذاء الجديد عندهم كان يستغرق خمس سنوات الي ان ينفذ, طبعا كان الحلم الاشتراكي كبيرا, لكنه اصطدم بعقبات, مثل تركيزهم علي صناعة السلاح التي تطورت جدا, علي حساب بقية الاشياء, لذا فشلت بين رجل الشارع والدولة.
> الآخر الغربي استعلائي لأسباب تبدو منطقية بدرجة ما وإن رفضناها, لكن ما سر استعلاء الآخر الروسي الذي كان يقاسمنا الحلم والقهر الذي عانيناه معا, فكيف يستعلي مقموع علي مقموع؟
هذا شئ طبيعي في المجتمعات الانسانية التي تستضيف وافدين لاول مرة, وانا هناك ذهبت ذات مرة مع صديق سوداني الي مكان في غابة, ورأتنا سيدة عجوزة وذعرت لرؤية الصديق الاسود ورسمت الصليب كأنها رأت الشيطان.
> يصعب ان أحاورك من دون التحدث عن ثورة يناير, فكيف رأيت خروج ملايين المصريين إلي الشارع, بعد طول الإحباط وفقدان الثقة في تحرك الناس؟ وكيف تري مستقبل الثورة المصرية؟
كنت يائسا جدا, وفوجئت بخروج الشعب, وسعدت جدا, وانا افضل استخدام كلمة انتفاضة ثورية بدلا من ثورة, فهي تخلصت فقط من عدة رموز مفضوحة ولم تحقق اكثر من ذلك.
> يبدو أنك متشائم رغم فرحك؟
بشكل عام عندي تفاؤل بالثورة لكن مازال هناك هموم ثقيلة يجب ان تنجز وهناك تباطؤ وتجاهل والاصوات الرجعية شئ مرعب, وكلام السلفيين غير ممكن.
> هل فقدت ثقتك في الشعب الذي خرج الي الميادين؟
ثقتي مشروطة بان يستمر التظاهر السلمي والنشاط السياسي الفاعل والإصرار علي الحريات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق